حسن اليمني
إذا كانت المشكلة هي في ارتفاع سعر الأرض والعقار، فإنّ الحل بالتأكيد لن يكون بتوفير المال، توفير المال سينشط هذه التجارة ويرفع أرقامها، لكن المشكلة ببساطة تكمن في البون الشاسع بين قيمة السكن وقدرة المواطن، إذ ما هي الأسس والقواعد الحقيقية التي ترفع سعر متر من التراب في وطن واسع الصحاري قليل السكان ؟ مثل هذا السؤال يتم تجاوزه والقفز عليه لأن في الإجابة عليه تكمن المشكلة المستعصية على الحلول.
تقديم الدعم والقرض وتسهيل خنق المواطن مالياً بالتأكيد ليس حلاً، السكن ليس قبراً وإنما أمان واستقرار، الأمن والاستقرار يحتاج كفاية واكتفاء، وحين أحصل على سكن يسحب ثلث أو نصف دخلي ولمدة خمس وعشرين عاماً دون أن يهتم بما قد يمر بي من ظروف، فإني أقفز من مشكلة لأدخل في متاهة من المشاكل الأخرى، فلماذا ننظر لقيمة السكن ونبحث معالجتها ولا ننظر لقدرة المواطن ونبحث أسبابها ؟ الحقيقة أننا في مواجهة شح السكن أمام مشكلة ذات وجهين، لا سبيل لمعالجتها بوجه دون الآخر، نحن أمام احتكار جشع من جانب وضعف قدرة من جانب آخر، ولا يمكن المعالجة في اتجاه دون معالجة الاتجاه الآخر، صحيح إن جانب الاحتكار أكثر وضوحاً وإن ضعف القدرة المالية للمواطن أكثر تهميشاً أو تجاهلاً، لكن هذا ما يمكن أن ينطبق عليه المثل القائل (حجب الشمس بالمنخل)، فماذا تعمل خمسمائة ألف ريال إذا كانت الأرض لوحدها تزيد كلفتها أضعاف ذلك ؟ وما فائدة منح الأراضي إذا كانت نائية في الصحاري بدون أي خدمات ومنفصلة تماماً عن الحياة المدنية ؟ هل نعالجها بقرض معجل بفوائد ومدى خمس وعشرين عاماً من الخنق والالتزام ؟ أهكذا فعلاً نوفر للمواطن حياة كريمة ؟!
حسناً، إنّ دعم القدرة للمواطن من خلال زيادة الرواتب هو أيضاً يخلق عبئاً ومشكلة على الموازنة، ولن يعين أو يساعد في تحسين القدرة المالية للمواطن كما نتمنى، فثقافة البذخ والاستهلاك صارت مستأصلة للأسف في سلوكنا اليوم، بل إن مزيداً من الدعم سيزيد هذه العاهة الاجتماعية توسعاً نحن بأمسّ الحاجة لتقليصه وتحجيمه، وإزاء هبوط أسعار النفط المورد الرئيسي للبلاد، وإزاء ما تتعرض له بلادنا والوطن العربي من أزمات وتدخلات، تصبح المطالبة بزيادة الدخل للمواطن عن طريق رفع الرواتب لا تختلف في المضمون عن معالجة قضية شح السكن بالقرض المعجل أيضاً، كلاهما يحرث في بحر، إذن القضية أبعد وأعمق مما هو مطروح اليوم، القضية خطأ حقيقي في خطط التنمية المتتالية منذ أكثر من أربعين عاماً، وكل ما يطرح اليوم ليس إلا محاولات ترقيع لن تجدي نفعاً، علينا أن نواجه الحقيقة هذه المرة.
علينا أن نستثمر الصحاري في إنشاء الضواحي والقرى المتكاملة وأن نجعلها جاذبة بما يتوفر فيها من خدمات وارتباط بالمدن، وأن نزيد قدرة المواطن المالية من خلال توجُّه صناعي وزراعي وخدماتي يستثمر في دعم موارد الدولة، ويأخذ نسبته التصاعدية في تقليص الاعتماد على النفط كمورد رئيسي للموازنة العامة، دعونا الآن من قضية شح السكن وعجز الراتب عن توفير السكن للمواطن فهذه مجرد حصيلة مشكلة طال زمن السكوت عنها وتجاهلها، وقد آن الأوان اليوم لمواجهة الحقيقة، لو أنّ (600) مليار ريال استثمرت في إنشاء مصانع تستوعب العاطلين عن العمل من الجنسين وتوزعت في ضواحي وقرى حول المدن بكامل الخدمات والتواصل مع المدن التي حولها لكان حالنا اليوم مختلفاً جداً، فماذا نقول عن مليارات أحرقت في صندوق التنمية العقارية والصناعية والزراعية والتنموية والإسكان وغيره دون أن تتحلحل مشاكلنا قيد أنملة ؟!
إنّ أصعب قضية تواجهنا حقيقة، هي فشل خطط التنمية في تحويل المجتمع من مجتمع استهلاكي إلى مجتمع منتج، رغم توفر كافة الإمكانات ومساحة الوقت ونِعم الأمن والاستقرار سياسياً وحتى طبيعياً، باستثناء كارثة سيول جدة التي لازلنا حتى اليوم غارقين في بحث أسبابها، كفانا اختراع الحلول واستيراد البشر وكأننا خلاصة خام نفط يحترق لتحسين اقتصاد الآخرين.