محمد سليمان العنقري
مشكلة الإسكان تتصدر المشهد الإعلامي بوسائله كافة، وهو متوقع نظراً لأهميته التي تسبق الملفات الأخرى كافة. فحتى معالجة ملف البطالة تعد من نتائج النهوض بقطاع الإسكان، وهو ما يدلل على أن الشق الاقتصادي بمعالجة مشكلة الإسكان مقدم على الاجتماعي. وقد يرى البعض أن الفصل في الرؤية لما يتم من إجراءات أو تصورات تقدمها وزارة الإسكان غريب، وكأنه لا يمكن تجزئة رؤية الحلول الاقتصادية والاجتماعية عن بعضهما. وهذا صحيح؛ لأنهما يتبعان بعضهما، إلا أن الخلط بينهما يعد رؤية قاصرة، ولا يجب أن يكون التداخل قائماً، بل الجانب الاجتماعي هو تابع للاقتصادي بهذه المشكلة، والنتائج تنعكس عليه.
وحتى نفصل في كيفية الخلط القائمة فإن ما حدث خلال السنوات الماضية من عمر وزارة الإسكان هو التركيز على كيف تتملك الأسر مسكنها الخاص، وترتفع بذلك نسب التملك؛ ولذلك ظهرت قرارات تتيح المزيد من التمويل؛ كي يتاح التملك، كالقرض الإضافي والمعجل مؤخراً، والعديد من الإجراءات التوسعية بالتمويل، بقصد فتح المجال لطالبي السكن؛ كي يتوافر قيمته؛ ما غيّب النظرة إلى قدرات الأسر على مواجهة تكاليف المعيشة مستقبلاً، ومدى استطاعتهم على تلبيتها بعد أن يُقتطع مبلغ كبير من دخل شريحة واسعة ذات دخل محدود، ولعقود من الزمن؛ وبالتالي فإن البحث عن طرق مباشرة سهلة بظاهرها، لكنها معقدة وخطرة بمستقبلها، أدى لبروز الاهتمام بالجانب الاجتماعي للحلول على الاقتصادي، بل إن كل تلك الإجراءات لم تفلح بتحريك الحلول المقترحة لتحقق أي نتائج ملموسة؛ ما أدى لطرح مزيد من الأفكار التمويلية، منها المحاولات لإلغاء شرط توافر 30 % من قيمة المسكن لدى المقترض طالب السكن، أي مزيداً ومزيداً من التوسع في التمويل دون النظر للمعالجات الاقتصادية الشاملة التي توجِد التوازن المطلوب لتحقيق نمو بقطاع الإسكان، يدوم لفترات زمنية طويلة، وينعكس إيجاباً على الاقتصاد الكلي والجزئي، ولا يترك آثاراً سلبية على الفرد أو الأسر عموماً بمواجهة تكاليف المعيشة.
فالمشكلة ليست في شق التمويل فقط بل يجب أن تبدأ بتوازن العرض القليل قياساً بالطلب الكبير والمتنامي سنوياً في مجتمع يعد من الأعلى نمواً سكانياً في العالم، يفوق 2 % سنوياً، أي نحو 400 ألف، وفي الوقت ذاته يوجد أكثر من مليون طالب سكن بين من هم بقوائم انتظار الصندوق العقاري وبوابة وزارة الإسكان للمنتجات السكنية، بخلاف القادمين الجدد لطالبي السكن، بينما تقل العروض عن هذه الأرقام بكثير؛ ما يعني أن المعالجة هي بجانب العرض بداية، ولم تصدر دراسة قرار الرسوم على الأراضي البيضاء إلا لتحفز ملاك الأراضي على البناء لزيادة العرض حسبما ذُكر ببيان القرار وتصريحات مسؤولي وزارة الإسكان. أما في الجانب التنظيمي فما زال سوق الإسكان يحتاج لأنظمة موازية لقرار الرسوم لتيسير أعمال التطوير، وتسريع اعتماد المخططات، وإصدار الرخص، وإيصال الخدمات لبعض الأحياء أو المخططات؛ ما يؤكد أن المعالجة تنصب في الشق الاقتصادي. وحتى في التمويل ما زال سوقاً محدود المنتجات ومرهقاً للمقترض، إلا أن المخاطر ترتفع بسبب الأسعار الملتهبة حتى مع توافر السيولة ووجود قنوات تمويل، إلا أننا نركز هنا فقط على تقلص بتنوع المنتجات والخيارات أمام المستفيد النهائي، حتى التمويل للمطورين أيضاً محدود القنوات ومرتفع بالتكاليف، إلا أن أي توسع بالتمويل للأفراد سيبقى غير مُجْدٍ إذا لم يتم معالجة جانب العرض بزيادته، وبمنتجات سكنية تناسب وتلائم أغلب الشرائح بالمجتمع حسب دخلها وعدد أفراد الأسر.
ويُضاف لذلك أيضاً أهمية تطور الأبحاث الاقتصادية لقطاع الإسكان؛ كي يبقى قطاعاً صحياً، ويبتكر فيه حلول لخفض التكاليف ووسائل البناء، ومساعدة المطورين على تحسين أدائهم بمعرفة أحوال السوق، وتجنب المخاطر فيه إضافة لرفع وعي المواطن بطريقة اختيار المنزل المناسب لوضعه، وهذا يعني رفع الثقافة الاقتصادية، ولا يغفل ذلك دور الجهات الأخرى الرسمية ذات العلاقة بتهيئة البيئة المناسبة لقطاع الإسكان؛ كي يعمل بأريحية تناسب كل الأطراف، من خلال تطوير الأنظمة، وكذلك تمويل إيصال الخدمات بأساليب متنوعة، لا تستند فقط إلى الاعتمادات المالية بالموازنة العامة السنوية.
ولكن حتى تتكامل الحلول الاقتصادية فإن الدور الأبرز يقع على عاتق «وزارة الاقتصاد والتخطيط» التي يجب أن تضع رؤية شاملة، تنشط القطاع السكني، وتعين الجهات الرسمية على أداء دورها.. والأهم أن يبقى الفرد بوضع مريح مالياً، ويتوافر له مسكن، لا يقتطع مبلغاً يزيد على المعدلات المقبولة عالمياً بأقل من 30 %، وأن لا تزيد قيمة المنتجات السكنية بمختلف أنواعها على ما يعادل دخل الفرد بأربعة أضعاف دخله السنوي حسب المتوسط العالمي المقبول، بينما يزيد على عشرة أضعاف ويصل حتى إلى خمسة عشر ضعفاً بالمملكة حالياً، ولا يمكن أن يعالج جانب الدخل برفعه إلى ضعفين أو ثلاثة في وقت قصير إذا كان ذلك ممكناً أصلاً؛ فالعبرة تبقى بكبح التضخم ومعالجته وليس تغذيته بمزيد من التمويل لأصول مبالغ فيها، وقد تتسبب بأزمة مالية فيما لو تسارعت عمليات التمويل وبأقل من عشر سنوات. هذا إذا افترضنا أن المؤسسات التمويلية للعقار ستقبل بالتمويل دون النظر للمخاطر المترتبة عليه من فقاعة بالأصول وزيادة بنسب التعثر المحتملة من المقترضين.
المعالجة الاجتماعية لتملُّك السكن هي نتيجة للمعالجة الأهم، وهي الاقتصادية؛ ولذلك لا بد من التركيز بالشق الاقتصادي، ورفع مستوى العرض وإصلاح الأنظمة المعطلة له لدى أي جهة لها علاقة، وتحويل القطاع العقاري لصناعة عقارية، تنعكس على الاقتصاد استثماراً وزيادة بالطاقة الاستيعابية للاقتصاد، وتوليد فرص العمل ومساعدة الأسر على تملك السكن المناسب لكل شريحة لتعزيز ثرواتهم؛ فكل الدول يقاس رفاهها ونجاحها اقتصادياً بقياس حجم ثروات المجتمع، بحجمه الواسع، وبنسبة ارتفاع الطبقة المتوسطة؛ ما سيؤدي في النهاية لمعالجة اجتماعية لملف السكن كتحصيل حاصل للمعالجة الاقتصادية التي ستنعكس بمعدلات نمو عالية بالاقتصاد، وارتفاع لدور القطاع الخاص فيه بعيداً عن تأثير الإنفاق الحكومي.