سلمان بن محمد العُمري
تمثّل الجرائم الإلكترونية هاجساً كبيراً ومؤرقاً للقطاعات الأمنية. وحينما تنظِّم كلية علوم الحاسب والمعلومات بجامعة الإمام مؤتمراً دولياً نهاية الشهر الجاري عن الجرائم المعلوماتية، هو الأول من نوعه، وبرعاية كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله -، فلأنه يأتي في إطار الاهتمام بمجال مكافحة الجرائم المعلوماتية التي شكّلت - بناءً على الإحصاءات الحديثة - خطراً يهدّد أمن المجتمع.
وقيام الجامعات بالجانب العلمي لمثل هذه القضايا، وبمشاركة القطاعات الأمنية وخبراء متخصصين في التقنية وعلم الجريمة، واجبٌ وفي غاية الأهمية للتباحث والمناقشة بين ذوي الاختصاص للوصول إلى ما يعالج جرائم التقنية الحديثة التي استغلّها السفهاء والمراهقون والمجرمون والأعداء بحسب توجهاتهم الشيطانية.
وأعتقد جازماً أن المسؤولين في وزارة الداخلية - وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن نايف بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، حفظه الله - يولي هذا الموضوع اهتماماً كبيراً باعتباره إحدى قضايا الأمن العصرية التي شكّلت عبئاً إضافياً للقطاعات الأمنية.
إن التطوُّر في مجال المعلومات التقنية أصبح نعيماً على البعض، ووبالاً على آخرين، بل سبيلاً للإيذاء والإجرام والاعتداء من خلال ما يعرف بالجرائم الإلكترونية الكثيرة والمتعددة، التي تتخذ صفات وأشكالاً متعددة، منها انتحال الشخصية، والاعتداء على المعلومات، والسرقة الإلكترونية، والقذف، والتشهير، وإفشاء الإسرار، والابتزاز وغير ذلك.
وكما يقول أهل القانون: لا عقوبة إلا بنظام؛ لذا فإن إصدار تشريعات وأنظمة مستمدة من الشريعة الإسلامية ومعلنة للجميع كفيلٌ بحفظ حقوق الناس في أموالهم وأعراضهم ودينهم. ولا بد من سَنّ قوانين وأنظمة لمكافحة الجرائم الإلكترونية، ومعاقبة مرتكبيها. وهذا لا يتأتى إلا من خلال المؤسسات المعنية بذلك، وهي الجهات القضائية والجامعات والكليات الشرعية المختصة بعلوم الشريعة والقضاء والجهات الأمنية، والاستعانة بذوي الخبرة من المتخصصين في التقنية والمعلومات لتحديد أبعاد وحدود المشاكل والجرائم؛ حتى يتحقق للناس الأمن في الأعراض والأموال والدين.
ولقد تمادى السفهاء في الاعتداء على حقوق الآخرين بنشر الأخبار المغلوطة والكاذبة والتضليل على الناس في معتقداتهم وأمور حياتهم، وفي إثارة الفتنة بين الدول وشعوبها.. وأساء آخرون استعمال التقنية في التطاول على أفراد، وشعوب، وقبائل، ودول، بإثارة النعرات بين الطوائف والقبائل، والتجني على الآخرين، وتزوير الحقائق.
وهناك من أفسد على الناس دينهم ودنياهم بتبني مواقع ضارة بالمجتمع، وتعمد إفساد أخلاق الشباب، وترغيبهم في ارتكاب الجرائم، والتحريض تارة باسم الدين، وتارة باسم الإصلاح، وتارة باسم التغيير.
لقد تعرض أناس وبيوت للأذى نتيجة الأخبار الملفقة والشائعات المغرضة، وهُدمت بيوت، وتضررت مؤسسات وشركات نتيجة لتصرف غير محسوب من فرد أو أفراد.
لذا لا بد من العناية والاهتمام بموضوع الجريمة الإلكترونية. ولربما يأتي أحد المتفيهقين بمقولة «حرية التعبير، وحرية تداول المعلومات»؛ فنقول: نعم، إن حرية التعبير من الأمور التي كفلتها الشريعة الإسلامية للفرد والمجتمع، ولكن وفق ضوابط، وهي مؤسسة على مبادئ الشريعة الإسلامية، ومؤطرة بضوابطها وقيودها في ضرورة الدقة، والتثبت في نقل المعلومات، وعدم وقوع الضرر بتداولها، وسن القوانين المنظمة لهذه الجرائم سيعمل على توفير الأمن والاستقرار للأفراد والمجتمعات والدول.
لقد مرّ الفقه الإسلامي عبر أربعة عشر قرناً بأطوار متعددة، انتقل فيها من طور التأصيل إلى طور الاجتهاد مروراً بالتقليد، وعوداً إلى الاستنباط، وفي كل مرحلة خرجت إلى النور مؤلفات تعنى بمستجدات كل عصر، وهذه المستجدات في مسائل التقنية من جرائم إلكترونية أو أحكام العقود والبيوع عبر الإنترنت تحتاج إلى اهتمام كبير من الجهات ذات العلاقة، وفي مقدمتها كليات الشريعة.
أتمنى أن تولي أقسام القضاء والفقه مثل هذه البحوث العناية الكاملة، وأن تخصّص وزارة العدل جزءاً من مشروعاتها الجديدة للقضايا المتعلقة بالجرائم الإلكترونية؛ حتى لا تكون اجتهادات بعض القضاة في غير محلها قوة أو ضعفاً. ويتبقى دور الجهات ذات العلاقة في نشر الأحكام القضائية والعقوبات الصادرة بحق مؤسسات أو أفراد؛ حتى يكون الأمر معلوماً لدى الجميع، وأن هناك عقاباً وجزاء لمن يتعدى على الآخرين. وصدق المولى - عز وجل - بقوله: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْه رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (18) سورة (ق).