د.علي القرني
كما يقول السيميولوجيون (أو كما يفضلها إخوتنا في المغرب العرب السيميائيون)، فإن الحدث - أي حدث في العالم -، وأي مسمى من مسميات الأرض له صفتان متلازمتان هما الدال والمدلول، بمعنى أن كلمة «جمل» camel على سبيل المثال له دال، وهو الاسم وله مدلول يختلف من شخص لآخر ومن ثقافة لأخرى..
ويختلف المدلول حتى من وقت لآخر ومن زمن لزمن آخر.. فمسمى «الجمل» حالياً ربما يطرق في الأذهان موضوع كورونا، كقيمة ارتبطت بسبب مستجدات العلاقة بين الكيان (الجمل) وهذا المرض، رغم اختلاف التفسيرات الطبية التي وجدت علاقة، وأحياناً لا علاقة بينه وبين هذا المرض.
موضوعنا ليس عن الجمال وليس عن الكورونا، ولكن عن الحدث الإعلامي الذي يظهر في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الإعلامي فله دال signifier ومدلول signified ويمكن أن ندرك ذلك تماماً من خلال تعددية المدلول لحدث أو مسمى من مسميات الإعلام اللا نهائية، فكل منا يخوض في مسألة المدلول بطريقة ترتبط بثقافته وتفضيلاته وشخصيته وكيانه الاجتماعي والمحيط الذي يعيش فيه.
فإذا شاهدنا أي لقطة تلفزيونية سواء كانت خبراً أو تقريراً أو حتى شخصية من شخصيات الإعلام، سنجد أن هذه يعتبرها السيميائيون إشارة من الإشارت التي تستلزم معنى يحدده المدلول من قِبل شخص متلقٍ.. وعلى سبيل الطرافة فقط هنا وكمثال للتبسيط، فإن الكيس الذي كان يحمله وزير الخارجية الأمريكي كيري في رحلته من واشنطن إلى القاهرة قبل عام تقريباً فجّر الكثير من التفسيرات عن هذه الإشارة التي تلقاها الناس ووسائل الإعلام، وظهرت هاشتقات عن: (ماذا في كيس جون كيري)؟.. والكثير أفتى في هذا الموضوع، ولكن يظل هذا الكيس هو إشارة من الإشارات التي نتلقاها من وسائل الإعلام، ونحاول أن نقرأها بطريقتنا الخاصة.
ووسائل الإعلام مليئة جداً بهكذا إشارات يتولّد منها الكثير من المعاني والتفسيرات التي لا تنتهي، ولكن تظل كل هذه الإشارات تقع تحت فضاء الدال والمدلول، ويمكن دراستها وقراءتها من خلال مثل هذه المنهجية العلمية، أو من خلال منهجيات أخرى.. وعلم السيميولوجيا أو السيميائية هو علم كبير ظهر منذ أكثر من قرن من الزمان على يد سوسير، ومنها انطلق العلم لينتشر أكثر في القارة الأوروبية وخصوصاً في الثقافة الفرنسية، وتلقّفه علماء وفلاسفة هناك روّجوا لهذا العلم وطوروه إلى أن أصبح من أهم المناهج التفسيرية التي يمكن أن تضيف جديداً للمعرفة الإنسانية.
وما نريد أن نشير إليه هنا أن وسائل الإعلام تقذف بهذه الإشارات - ملايين من الإشارات - ويتلقفها الناس في هذا العالم بتفسيراتهم وشروحاتهم وفهمهم وقراءاتهم المتلونة بشخصياتهم وثقافتهم وميولهم وتفضيلاتهم ومشاعره وأحاسيسهم.. وعلى الرغم من أن التلقي هو مشاع للجميع وصناعة المدلول تتوافر للجميع، إلا أن الباحثين السيميولوجيين لهم قراءتهم العميقة للمدلول، وهم من يرشدنا إلى المدلولات المتنوعة والعميقة وغير الظاهرة للإشارات الإعلامية.. وهم من يقرأ هذه الإشارات في عمق تحليلي يُرشدنا إلى الحالة النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية للمدلول.
ودراسات السيميولجيا هي دراسات ممتعة ومثيرة للجدل أحياناً، فقد نختلف نحن كباحثين عن تفسير تلك الإشارات، أياً كانت.. وهناك دراسات كثيرة تحاول أن تفسر وتشرح وتقرأ الإشارة التي نستنطقها من الصورة الفوتوغرافية على سبيل المثال، فكل صورة فيها إشارات كثيرة يمكن أن نفهمها ونقرأها ونتعمّق فيها، ونستخرج منها مجموعة من العلاقات التي قد لا تكون ظاهرة للعيان.. وهذه مهمة هؤلاء الباحثين وشغلهم الشاغل.
وربما لو يتدرب المتلقي على علم الإشارة (السيميولجيا أو السيميائية)، فإنه سيجد فيها قراءة جديدة أحياناً لظوهر الاتصال والإعلام وكل شي موجود في هذه الحياة البشرية، فإن أي حركة أو إيماءة أو موقف أو حدث أو شخصية أو حتى ملابس ومأكولات وسيارات وإكسسوارات، هي إشارات تبث الكثير من المعاني والدلالات التي نتوقف عندها إذا كانت لدينا الأدوات المنهجية التي نقرأ من خلالها هذه المعاني اللا نهائية من وسائل الإعلام ومظاهر الحياة وملامح الإنسانية.
وكنت أتمنى أن ينشأ لدينا جيلٌ من الباحثين والباحثات السعوديين، وبخاصة في تلك الجامعات التي لديها دراسات عليا في الإعلام والاتصال يفهم ويتدرب ويدرس ويبحث ويستقصي في هذه المنهجية العلمية، ولكن للأسف حتى الآن لم تنتج الجامعات السعودية باحثاً أو باحثة في مجال الإعلام يعمل بهذه المنهجية، ويبني خبراته البحثية من واقع علم الإشارة بتطبيقات على البيئة السعودية بمختلف تنوعاتها وتدرجاتها خصوصاً من وسائلنا الإعلامية.