رمضان جريدي العنزي
جسدها تقهقر حد الضعف، حتى صارت مثل نبتة صحراوية صغيرة أضناها العطش، صابها الوهن والغبش، جراء السهر والتعب، لكن روحها ما زالت مليئة بالعطاء تجاه والدتها المقعدة، صارت لها قمر يطلع من بين عيون الليل ليضيء لها الكون، ويفتح أزرار الظلام لتخرج من جوف إعاقتها البالغة، كل صباح تستيقظ حين تستيقظ العصافير، تغسل
وجه أمها بالماء لتكفكف عن وجها النعاس، ترتل لها الكلام الجميل، كي تزيل من عينيها الدمعة الطافحة بالضجر، تتكئ على غصن قلبها، وتنام على طرف لسانها، صارت لأمها باب وحديقة وشمس ونافذة ومطر، تطوقها بالدعاء، وترحل معها إلى عمق المدى، مشغولة بأمها وحدها، قلبها غدى يحبو كطفل بين يديها، كل يوم تعد لها فطور الصباح، وتجلس قرب النافذة، عل عصافير الصباح التي تراقص الشجر وقطرات المطر تبعث في نفسها الخدر والعافية، مثل أغنية شاردة تنام على وسن، ترسم أمها غيمة، وتضع قلبها جناحاً لها، ترسمها بحراً وتضع روحها موجة له، تكتبها نشيداً وتضع همها سلماً له، قلبها غدى فراشة ملونة لها، رتلاً من مطر الدهشة، تخيط من خيط حزنها من أجل فرح أمها، صارت لها القصيدة والحداء، والقصة والرواية، نمت على جسد أمها عشبة وغيمة، ربيعاً بهياً، وزنابق ثمينة، هذه المرأة خريطة وصل ورحم، ما من أحد مثلها يتسع صدره كما صدرها، امرأة أشعلت روحها وجداً لأمها، ورغبة حانية لها، تحاول أن تزيح عن جسد أمها وخز المرض الذي أوجعها وأقعدها طويلاً، كل يوم تمنح أمها ماء الحياة، وتراتيل الدعاء، تحاول أن تجعل الصبح برعماً لها، والمساء توتاً، والظهيرة عسل، تهز لها أغصان الحياة، لأمها كالضوء في قعر المرايا، قيثارة وسلال عبير، يسبق قلبها خطاها، ليستحم في قلب أمها، كي ترفع اليأس عنها، وتزهر حياتها بالتوهج، جسدها من أجل أمها يذبل بالسهاد، تسهر لأجلها طويلاً ولا تعرف معنى الرقاد، أم رؤوم لأمها، تلملم من تعبها خيوطاً لتصنع لها غيماً وحكاية ومواسم حنين، تحدثها طويلاً عن القناديل العتيقة، وبيتها الطيني العتيق، والمأذنة المجاورة، وصوت المؤذن، وموسم الربيع والفقع والباعة، وكيف تحلق أسراب الطيور، قبل هطول السحاب، والمدفأة وجمر الغضا حين يجيء الشتاء، ترتل لها الآيات، وتسهر معها حد التعب، تظل معها حتى يلوح الفجر العميق، تنام الخلائق كلها ولا تنام، أعواماً لأمها المقعدة وهي محاصرة لها بحيز المكان والزمان، عندما سقط ملح الذكور، وسافرت آيات الضمير، وأصبح الحس مسلوخ، وأكتفى الذكور بخبز التنور، والمكبوس، والعطر ومضاجعة النساء، هذه المرأة نادراً ما يشبهها أحد في هذا الزمان الحلزوني المر، هي لا تشبه أحد إلا نفسها، مثل ماسة كلما مر عليها الزمان، تتجلى لامعة واهجة.