الدكتور الحذيفي: الفتن أخرجت بعض شباب المسلمين من محاضنهم الآمنة إلى انحراف الفكر الضال وموالاة خوارج العصر ">
مكة المكرمة - المدينة المنورة - واس:
قال إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور خالد الغامدي إن هذا الدين العظيم مبنيٌّ على ركنين وأصلين جليلين، لا يقبل الله من عبد صرفاً ولا عدلاً حتى يأتي بهما: معرفة الله وتوحيده وعبادته، ومعرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته واتباعه، وهما مقتضى الشهادتين، وحقيقة الإسلام وجوهره {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّه مُخْلِصِينَ لَه الدِّينَ حُنَفَاء}. وأضاف فضيلته يقول في خطبة الجمعة التي ألقاها أمس بالمسجد الحرام: إن معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحبته وطاعته أمر متحتم، لا محيد عنه لكل مسلم ومسلمة، وفرضٌ واجب، وشريعة غراء، ومنهج أبلج وضاء، يسعد به العبد سعادة لا شقاء معها أبداً، ويبارك الله له بها في عمره، ويزكي روحه وعقله؛ فينعم بالحياة الطيبة التي هي أثر من آثار محبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطاعته. ولقد وبَّخ الله الذين لم يعرفوا رسولهم وقرَّعهم بقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَه مُنكِرُونَ}. إنه ليس هناك أحد من البشر يستحق أن يحب ويعظم ويطاع من كل وجه إلا رسول الله، ذلكم النبي الكريم الذي صنعه الله على عينه فاختاره واصطفاه، واجتباه، وانتقاه، وكمَّله ربه بكل الكمالات البشرية والفضائل الخَلقية والخُلقية، ورقَّاه في مدارج العز والكمال والشرف حتى بلغ مستوى لم يبلغه أحد من صفوة الخلق، لا نبي مرسل، ولا ملك مقرَّب، وسدَّ جميع الأبواب الموصلة إليه إلا باب محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومنع الخلق كلهم من التعبد له إلا بما شرع محمد - عليه الصلاة والسلام -؛ فهو أعظم الخلق حرمة عند الله، وأتقاهم، وأخشاهم، وأعلمهم بالله تعالى. وما طرقت العالم شخصية كشخصية محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا عرفت الإنسانية مُعلِّماً ولا قائداً ولا قدوة أكمل ولا أعلى مقاماً من هذا النبي المختار، سيد ولد آدم عليه السلام.
وأضاف يقول: مهما تحدث المتحدثون، ووصف الواصفون، وألَّف المؤلفون، ونظم الشعراء المجيدون، فلن يبلغوا جلالة وصف القرآن العظيم وبلاغته وبيانه في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم -؛ فليس هناك أعلم برسول الله من ربه وخالقه، كما أنه ليس هناك أعلم بالله تعالى وأعرف من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ولقد تحدث القرآن المجيد بحلاوته وطلاوته عن هذا النبي الكريم حديثاً عجباً مشرقاً باهراً متدفقاً، يعرض فيه بأساليب مؤنقة مغدقة جوانب العظمة والكمالات النبوية؛ إذ نشأ يتيماً فآواه ربه ورباه، ووجده ضالاً ما يدري ما الكتاب ولا الإيمان فهداه واجتباه، وكان عائلاً فقيراً فأغناه ورعاه حتى ابتعثه على حين فترة من الرسل رجلاً كريماً في قومه، وهو صاحبهم الذي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فكان أول ما أنزل عليه صدر سورة (اقرأ)، ثم صدر سورة (المدثر)، وفيهما بيان مركزٌ لمعالم الإسلام وأسس الدعوة، فصارت بعثته - صلى الله عليه وسلم - أعظم منة إلهية ورحمة ربانية، طوقت عنق كل مسلم.
وبيّن فضيلته أن الله تعالى عظم شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن، وأثنى عليه ثناءً عاطراً في عبادته وأخلاقه وسيرته وجهاده، ولم يكن يناديه إلا بـ{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ}، أو {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ}، إجلالاً له وإعظاماً، كيف لا.. وهو النبي الأمي الذي ما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، بل هو إلا وحي يوحى، علّمه جبريل شديد القوى.. وكيف لا يعظمه ربه وهو خاتم الأنبياء، الشاهد الشهيد، الصادقُ الصدوق، الذي جاء بالحق وصدق المرسلين، المرسلُ للثقلين الإنس والجن كافة بشيراً ونذيراً، داعياً إلى ربه بإذنه وسراجاً منيراً، نبي أمي، لا يخط بيمينه، ولا يقرأ، وجاء بأعظم الشرائع، وبُعث بالحنيفية السمحة، وعلّمه ربه ما لم يكن يعلم، وزيّنة، وجمّلة بالأخلاق الحسنة العظيمة من التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، والصبر والسماحة والرحمة والعفو والصفح؛ فأحبته القلوب والأرواح، ولو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله. مُلئ قلبه الشريف حباً لأمته، عزيز عليه ما أعنتها وشق عليها، بالمؤمنين رؤوف رحيم. وكان أشدَّ ما يكون على هداية أمته حتى كاد يتلف نفسه فعزاه ربه وصبره وسلاه بأنه رسول، وإنما عليه البلاغ {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات}، {ولا يحزنك قولهم}، ونصحه بألا يضيق صدره بما يقولون.. نبي كريم، قام لله فأنذر بقوة وثبات، فبلغ رسالات ربه، ولا فتر ولا توانى، وما أخذ على تبليغ رسالات ربه أجراً ولا عرضاً من الدنيا، ولم يكن من المتكلفين المتنطعين، بل جاء بالسماحة والوسطية والاعتدال، ولم يكن بدعاً من الرسل، ولم يأتِ بشيء من تلقاء نفسه، بل مبلِّغ أمين، عصمه ربه وكلأه بعينه من أن يضله الناس أو يضروه، أو يزلقوه بأبصارهم، أو يفتنوه عن بعض ما أُنزل إليه ليفتري على ربه.
وشدّد فضيلته على أنه يجب أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوتنا العليا في كل شيء، وحديث مجالسنا ومنتدياتنا، وسمير محافلنا وندواتنا، ومرتكز خطابنا الدعوي ومناهجنا وتربيتنا؛ ذلك أنه عليه الصلاة والسلام القدوة الخالدة، والأسوة التالدة للحاكم والقائد والعالم والمصلح والمربي والناصح والزوج والأب.. وقال: إننا في هذا الزمان المليء بالفتن وأفكار التطرف والإرهاب، واتخاذ الناس رؤوساً جهالاً وأُغيلمة سفهاء الأحلام، يفسدون ولا يصلحون، ويهدمون ولا يبنون، لأشد ما تكون حاجتنا إلى اتخاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قدوة وأسوة ومنهاج حياة، وإلى تعظيم مقام النبوة، والحذر الشديد من رد السُّنة والاعتراض عليها. وإن الأمة اليوم وهي تتعرض لمكائد الأعداء وظلم المعتدين المختلين في المسجد الأقصى وفي غيره من بلاد المسلمين لأحوج ما يكون للرجوع إلى سنته - صلى الله عليه وسلم - وسيرته المباركة لمعرفة المنهج الحق في التعامل مع الأعداء ومواجهتهم، ورفع الظلم والاعتداء على الأمة متأسية بسيد البشرية الذي بعثه الله رحمة للعالمين، ومقتدية بهديه في القيام بنصرة الإسلام وأهله، ورفع الظلم والاعتداء عن المظلومين، ورد كيد المتربصين والحاقدين.
وبيَّن إمام وخطيب المسجد الحرام أنه مع إطلالة كل سنة هجرية تبرز لنا حادثتان عظيمتان، غيَّرتا مجرى التاريخ: نجاة موسى عليه السلام وخروجه من مصر، ونجاة محمد - صلى الله عليه وسلم - وخروجه من مكة، مع أن زمن حدوثهما مختلف؛ إذ كانت نجاة موسى في العاشر من محرم، ونجاة محمد - صلى الله عليه وسلم - في أوائل ربيع الأول، إلا أن اعتماد الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - التاريخ الهجري من بداية محرم جعل هاتين الحادثتين تلتقيان فتُذكران في بداية كل عام هجري، وأصبحتا من أهم الأحداث لما فيها من التشابه والعِبر والحِكم والآيات الباهرات؛ ولذلك كان صيام عاشوراء سُنة نبوية مباركة، تؤكد عظيم الصلة بين النبي موسى والنبي محمد عليهما السلام.
وتحدَّث فضيلة أمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور علي بن عبدالرحمن الحذيفي عن فضائل الاستغفار, ووجوبه, وملازمة الأنبياء والرسل والأتقياء للاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله, مؤكداً حاجة العباد والأمة للتوبة وطلب المغفرة من الله تعالى لدفع البلاء, وكشف الضر, ودوام البركات.
واستهل فضيلته خطبة الجمعة أمس داعياً المسلمين إلى تقوى الله بالعمل بمرضاته، وهجر محرماته، للفوز برضوانه ونعيم جناته, والنجاة من غضبه وعقوباته. مبيناً أن ربنا - جل وعلا - كثّر أبواب الخير وطرق الأعمال الصالحات تفضلاً ورحمة وجوداً وكرماً من رب العزة والجلال؛ ليدخل المسلم أي باب من الخيرات, ويسلك أي طريق من طرق الطاعات؛ ليصلح الله دنياه، ويرفعه درجات في أخراه, فيكرمه المولى سبحانه بالحياة الطيبة, والسعادة في حياته, وينال بعد مماته النعيم المقيم, ورضوان الرب. مورداً قول الله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ. أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّه جَمِيعًا. إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}, وقوله سبحانه عن الأنبياء الذين هم قدوة الناس - صلى الله وسلم عليهم أجمعين -: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}. وبيّن الشيخ علي الحذيفي أن من أبواب الخيرات، ومن طرق الصالحات والطاعات، ومن الأسباب لمحو السيئات الاستغفار؛ إذ إن الاستغفار هو سُنة الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام, مستشهداً بقول الحق تبارك وتعالى عن أبوَي البشر صلوات الله ورحمته وبركاته عليهما: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أنفسنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقوله - عز وجل - عن نوح عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَي وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ..}, وقوله عن الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَي وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}, وقوله - جل وعلا - عن موسى عليه السلام: {قَالَ رَبّ اِغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتك وَأَنْتَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ}, وقوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّه وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}, وقوله سبحانه آمراً نبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّه لَا إِلَه إِلَّا اللَّه وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}. وذكر ما روته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه». رواه البخاري ومسلم. فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلّم الرجل إذا أسلم أن يدعو بهذه الكلمات «اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني»رواه مسلم من حديث طارق بن أشيم - رضي الله عنه -. كما أشار فضيلته إلى مشروعية طلب العبد من ربه سبحانه مغفرة ذنوبه كلها، ما علم منها وما لم يعلم؛ إذ إن كثيراً من الذنوب لا يعلمها إلا الله, والعبد مؤاخَذ بها؛ لما جاء في الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -, عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو بهذا الدعاء «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي, وإسرافي في أمري, وما أنت أعلم به مني, اللهم اغفر لي جدي وهزلي, وخطئي وعمدي, وكل ذلك عندي, اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت, وما أنت أعلم به مني, أنت المقدم وأنت المؤخر, وأنت على كل شيء قدير». رواه البخاري ومسلم.
وذكر فضيلته أن الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل؛ إذ قال أبو بكر - رضي الله عنه - «فكيف الخلاص منه يا رسول الله؟», قال: «أن تقول: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم, وأستغفرك من الذنب الذي لا أعلم». رواه ابن حبان.
وقال الشيخ الدكتور علي الحذيفي, إذا سأل العبد ربه مغفرة ذنوبه, ما علم منها وما لم يعلم, فقد وُفّق توفيقاً عظيماً. مبيناً أن دعاء العبد ربه مغفرة الذنوب دعاء إخلاص وإلحاح وسؤال تضرع وتذلل يتضمن التوبة من الذنوب, وسؤال التوبة والتوفيق لها يتضمن الاستغفار؛ فكل من التوبة والاستغفار إذا ذكر كل منهما بمفرده تضمن الآخر, وإذا اجتمعا في النصوص كان معنى الاستغفار طلب محو الذنب, وإزالة أثره, ووقاية شر ما مضى من الذنب وشرّه. مضيفاً بأن التوبة هي الرجوع إلى الله بترك الذنوب، ووقاية ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله, والعزم على ألا يفعله.
وحذّر فضيلة أمام وخطيب المسجد النبوي من الفتن التي تضر الدين والدنيا, وتوبق العبد في الآخرة, وتفسد المعاش في الحياة, مبيناً أن السعيد من جنب الفتن, وأعظمها أن يلتبس على المرء الحق والباطل, والهدى والضلال, والمعروف والمنكر, والحلال والحرام. مشيراً إلى الفتن التي أخرجت بعض شباب المسلمين من محاضنهم الآمنة, ومحيطهم الحصين, ومجتمعهم الحاني, إلى انحراف الفكر الضال, واتباع وموالاة خوارج العصر, فقادهم إلى تكفير المسلمين, وسفك الدم المعصوم, بل أفتاهم أولئك الخوارج بتفجير أنفسهم والعياذ بالله, متسائلاً فضيلته: «وهل يظن من يفجّر نفسه أن ذلك سبب لدخول الجنة؟ أما علم أن قاتل نفسه في النار؟»، ثم قرأ {وَلَا تَقْتُلُوا أنفسكُمْ إِنَّ اللَّه كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}. وختم فضيلته الخطبة محذراً من قتل المسلم؛ إذ إن ذلك سبب للخلود في النار, لقول الله - عز وجل -: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّه عَلَيْه وَلَعَنَه وَأَعَدَّ لَه عَذَابًا عَظِيمًا}. كما استدلّ بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة». داعياً هؤلاء إلى أخذ العبرة مما مضى من أمثالهم الذين تعدوا حدود الله فندموا حيث لا تنفع الندامة.