أ. د.عثمان بن صالح العامر
صليت العشاء هذا المساء في المسجد القريب من بيتي، وفي أثناء خروجي كان يقف على الباب شيخان فاضلان، سلّما عليّ بحرارة وابتسام، وعرفا بنفسيهما بكل أدب واحترام، عرضت عليهما الذهاب معي للبيت كما هو العرف، فاعتذرا لأنهما مع بقية القضاة زملاء المهنة يجتمعون كل أسبوع في مثل هذه الليلة باستراحة قريبة من حيّنا، يلتقون خارج وقت الدوام وبعيداً عن ضغوط العمل اليومية للتعرف على بعضهم البعض عن قرب، ولبَثّ همومهم الشخصية في إطار من الحميمية الصادقة والمحبة المجردة الخالصة.
أعرف هذه العادة الحسنة والسنّة الطيبة في مدارس التعليم العام على وجه الخصوص، بعض «طلعة المدرسين لدينا في حائل» لها سنوات تجاوزت الأربعين عاما، وهناك معلمون تملكوا استراحة خاصة يلتقون فيها ليلة في الأسبوع، يكسرون الروتين ويعززون أواصر العلاقة بينهم، بعيداً عن الرسميات وجو العمل الذي يفرض نمطاً من التعامل الذي لا يعكس شخصية الإنسان الحقيقية، وقد يتسبب في تأزم العلاقة بين الأشخاص .
كنا إلى زمن قريب نعتقد أن القاضي واجب عليه أن ينقطع عن الناس، ويعيش من بيته لمسجده لمقر عمله لا يخرج عن هذه الدائرة الثلاثية إلا نادراً ولظروف طارئة، وعلاقته حتى بزملاء العمل علاقة ذات طابع رسمي صرف، وكأنه بلا مشاعر ولا يحتاج إلى فسحة وترفيه، مع أنه في الحقيقية أحوج من غيره لذلك الأمر، فضلاً عن أن عزلته تحرم المجتمع من الاستفادة من علمه، ولذلك غالباً ماكان أثر القاضي في محيطه المحلي ضعيفًا، وعلاقته بجيرانه شبه معدومة، مبالغة منه في الخوف من تأثير هذه العلاقة على وفائه بمتطلبات القضاء كما هو معلوم، تغيرت هذه النظرة في السنوات الأخيرة، فأصبحنا نرى جمعًا من القضاة يملكون القدرة على الموازنة والتسديد بين هذه وتلك، يحافظون على هيبة القضاء وتجرده وعدم انحيازه عن الحق، وفي ذات الوقت يعيشون كما يعيش غيرهم في مجتمعهم الصغير، فانتفع بهم المجتمع وعاشوا هم كما يريدون أن يكونوا بعيداً عن الضغوط التي تلاحقهم خارج أسوار المحكمة وفي مجامع الناس « الفصل بين الوظيفي والشخصي».
إن اللقاءات الاجتماعية بين زملاء المهنة أياً كانت تقرب وجهات النظر، وتساعد على التفاهم، وتزيل ما في النفوس، إن كان علق في النفوس شيء جراء تطبيق اللوائح والأنظمة التي قد تكون أحياناً متعارضة مع رغباتنا الشخصية ، كما أنها فرصة للمشاورات والنقاش، والاستفادة من بعضنا البعض في ما يخدم الصالح العام وييسر إنجاز المعاملات، ويفتح قنوات التعاون ويضمن مد جسور التواصل والتكاتف بين منسوبي الجهاز، ولذلك فإن مثل هذه المبادرات التي تبدو للبعض عادية، وربما عدّها تضييعاً للوقت وسبباً للتسيب والمحاباة والمجاملة بين المدير ومن هم تحت إدارته، أقول إن مثل هذه المبادرات لها من الإيجابيات الشيء الكثير، وحقها على مثلي من كتاب الرأي أن يشيد بها ويكتب عنها، لعل هذه العدوى التي وصلت لسدة القضاء تسري لقطاعات ومؤسسات ما زالت تفتقد روح الفريق، ولا تعرف العمل الجماعي والتكاتف والتعاون والتواصي بالحق بين منسوبيها الذين هم في النهاية يمثلون مؤسسة واحدة، ومخرجاتهم ونتاجهم يحمل اسم هذا الكيان الذي يعملون تحت مظلته، فالتعامل داخل أروقة هذه الدائرة فيه من الحدة والشك وعدم الثقة ما يجعل السمة الغالبة في العلاقات البينية بين النظراء - فضلاً عن غيرهم - هي التوتر والتربص وأحاديث السب.
نعم المبالغة في الجانب الاجتماعي وجعل هذه اللقاءات كل ليلة، أو جعلها على حساب العمل أو تقديم التنازلات لبعضنا البعض بسبب هذه الوشائج التي تولدت من لقائنا الأسبوعي وعدم الفصل بين الوظيفي والشخصي أو ... أمر مرفوض ولا يقره عاقل، ولكن التخوف من هذا الأمر لا وجود له على الحقيقة والتجربة خير برهان؛ فالمدارس التي أتحدث عنها والمعلمون الذين يلتقون ليلة في الأسبوع منذ سنوات طويلة كانت وكانوا وما زالت وما زالوا من أفضل المدارس، والعلاقة بين معلميها القدماء منهم والمحدثين من أميز العلاقات وأقواها، واحترامهم لقرارات مديرهم والتزامهم بالنظام يعد مثالياً وأنموذجاً يحتذى، وليس من رأى كمن سمع، دمتم بخير، وتقبلوا صادق الود والسلام.