د. صالح الرشيد ">
لا تأتي الرياح دائماً بما تشتهي السفن.. كنا نتمنى - قيادة وشعباً - أن يمر موسم الحج بسلام في وقت عصيب تمر به المملكة، حيث تتعاظم التحديات والتهديدات تستهدف أمن وطننا العظيم.. ووطننا العظيم مستهدف دائماً وسيظل مستهدفاً إلى يوم الدين والسبب واضح ومعروف، فعلى أرض وطننا الحرمين الشريفين، وعلى أرضه هبطت الرسالة ومنه انطلقت إلى آفاق العالم بأسره وعلى أرضه من يحمون الإسلام وركائزه ويذودون عنه ضد هجمات مستمرة وشرسة لتفريغه من مضمونه أو خلط المضمون بمكونات تتنافى مع الدين وتتعارض مع كتاب الله وسنة رسوله أو تلويث سمعته أو استغلاله في تفعيل مصالح أو تحقيق مكتسبات.
تقدم المملكة وقياداتها وشعبها طوال تاريخها جهداً عظيماً في خدمة الحجيج، وعلى مدار سنوات طويلة دائماً هناك جديد في الحج، توسعات وإنشاءات ومسارات جديدة وتطوير للخدمات لا ينكره إلا جاحد أو حقود. في عام 1365 هـ أصدر الملك عبد العزيز - رحمه الله - مرسوماً بتأسيس مديرية الحج والحرمين الشريفين لتتحوّل في عهد الملك فيصل إلى وزارة الحج والأوقاف الإسلامية، لتنفصل الأوقاف بعدها وتصبح الوزارة وزارة خالصة للحج، وهي الوزارة الوحيدة على مستوى العالم بأسره في هذا المجال. كل ملك يقود المملكة تكون على رأس أولوياته إضافة إبداع جديد للحرمين الشريفين حتى ظهر بهذه الصورة التي تبهر كل من يحل ضيفاً على الرحمن. من يزور مكة والمدينة يستطيع بسهولة أن يدرك الجهد المبذول للدمج بين القديم والجديد، وما بين صنع الله وصنع الإنسان، ولم يكن هذا الأمر سهلاً على الإطلاق، بل استلزم تخطيطاً إبداعياً وجهداً جباراً من أطراف عديدة، لتظهر مكة والمدينة بهذه الصورة ولتتسع المساحات وتستوعب أضعاف أضعاف ما تستوعبه في الماضي.. وفي كل مرة يتساءل المتسائل ما الجديد الذي يمكن أن تفعله المملكة في إدارة المناطق والأماكن المقدسة؟.. وما الجديد الذي يمكن أن يضيفه ملك جديد في الحرم؟.. وتأتي الإجابة عملية ومدهشة بأن مخزون المملكة من الإبداع في إدارة الحرمين ومرافق الحج لا ينتهي أبداً.. وعندما تفعل القيادات المتعاقبة ذلك فهي لا تَمنّ على الإسلام والمسلمين، ولكنها تؤدي فرضاً عليها فرضه الله سبحانه وتعالى، وحمّلهم أمانته منذ هبط البيت العتيق على أرضها. عندما تستقبل بقعة مثل مكة بهذه المساحة وهذه التضاريس عشرات الملايين سنوياً من كل بقاع الأرض بثقافات مختلفة وأعمار مختلفة، فإن إدارتهم ليس بالأمر السهل أبداً.. في عالم الخدمات بصفة عامة تزداد الأمور صعوبة بتواجد العملاء في مكان تقديم الخدمة، حيث تزيد الأعباء على المؤسسات الخدمية وتتضاعف تلك الأعباء بتضاعف أعداد العملاء، ما بالنا بخدمات الحج وإدارة المشاعر في أجواء مختلفة، وبعملاء يحملون ثقافات مختلفة، وبأعداد ضخمة تتواجد في أماكن محددة وفي مشاهد لا تشهدها أي بقعة في العالم بهذه الصورة. الله اختار المملكة وشعبها وقياداتها المتعاقبة لحمل أمانة الحج والحجيج، بل وأمانة حماية الإسلام والشريعة واختياره تم لحكمة هو يعلمها. في كل الأحوال حدث الحادث الأول في موسم الحج الحالي بسقوط الرافعوسقوط شهداء ومصابين، ماذا فعلت المملكة وقيادتها؟ قدمت تعويضات لأسر المتوفين وللمصابين بمبالغ ضخمة وغير مسبوقة في مثل هذه الحوادث، وكان لهذا العمل وقعه الكبير على نفوس المتضررين وذويهم، وكانت التعويضات هي حديث الناس في كثير من بقاع الأرض خلال الفترة الماضية، بل إن كثيرين يمزحون بأن هناك من يرغب في أن يلقى هذا المصير، ويجني ويجني أهله هذه التعويضات!!.. لم تكتف القيادة بهذا، بل أحالت كل المسؤولين للتحقيق وما زال التحقيق جارياً، وهناك يقين أن المقصرين سيعاقبون على تقصيرهم.. وفي يوم رمي الجمرات حدث الحادث الأكبر بحدوث التزاحم في طريق مؤدٍ لرمي الجمرات، ورغم حدوث مثل هذا الحادث في سنوات ماضية، إلا أن هذه المرة كانت الخسائر كبيرة بالفعل، نحن على يقين أنه ستكون هناك تحقيقات مكثفة لمعرفة الأسباب ومعاقبة المقصرين أو المتهاونين أو المتسببين في هذه الكارثة؛ ولا يمكن تصور أن المملكة شعباً وقيادة ستسعد بتكرار هذه الحوادث أو تقلل من آثارها.. ولمن لا يعرف قيادات المملكة ولم يقرأ تاريخ ردود أفعالها مع مثل هذه الحوادث وغيرها، فليقرأ وليعرف أن كل ما يتعلق بأمن وسلامة واستقرار المملكة داخل المملكة وخارجها تقابله القيادات بحزم شديد وبردود أفعال صارمة، وقد تفوق التوقعات. مسؤوليات المملكة وشعبها وقياداتها جسيمة والأمانة كبيرة، وهم على قدر ضخامة المسؤولية وثقل الأمانة ومعهم وقبلهم وبعدهم الله خير حافظاً، وكيف لا يحفظ الله المملكة، وفيها الحرمان الشريفان؟؟