محمد أبا الخيل
ظهر تعبير الفوضى الخلاقة حديثًا لوصف الحالة التي تسود فيه تناقضات مؤثرة في الواقع السياسي لبلد ما، والتعبير مشتق من مدلول نظرية الشواش (Chaos Theory) وهي نظرية رياضية فيزيائية للتنبؤ بمستقبل الظواهر الطبيعية التي تتحكم بها عوامل غير متوقعة أو محسوبة، ابتدعها العالم الأمريكي (ادوارد لورنز)، والفوضى في هذا المضمون لا تعني بالضرورة الدمار والفساد، ولكنها تعني غياب النظام في واقع ما أو ضعفه ودخول عوامل غير متوقعة ومؤثرة لا تتسق مع النظام مما يجعل مستقبل هذا الواقع غير قابل للاستشراف والتوقع.
في واقع اليوم نرى الفوضى الخلاقة تنتشر وتسيطر على معظم ما يؤثر في الحياة اليومية أو مستقبل الشعوب والأفراد وخصوصًا في منطقة المشرق العربي، فالجغرفيا السياسة يعتريها فوضى عارمة بحيث أصبحت كل احتمالات الانقسام والانضمام والاتحاد واردة، وأصبحت الشعوب العربية تبحث عن مشتركات جديدة فيما بينها تعرفها وتجمعها، فظهرت العرقية والقبلية والفئوية المذهبية الدينية واللغة الرديفة، كل هذه العوامل ظهرت لتمنح الفوضى الخلاقة فرصة التكوين الجديد للجغرافيا السياسية، وما يحدث في واقع المشرق العربي اليوم حدث في منتصف التسعينيات في منطقة البلقان وجر تلك البلدان لصراعات دامية ما زالت آثارها تتشكل حتى اليوم، لذا ستعمل الفوضى الخلاقة على زيادة العوامل المؤثرة في التكوين الجديد للجغرافيا السياسية في المنطقة، وفي الجانب الاجتماعي أيضًا هناك فوضى خلاقة باتت تتشكل بعوامل سياسية واقتصادية نتيجة الاضطراب في الاستقرار الاجتماعي وازدياد حالات التهجير واللجوء والتسلل بين دول المنطقة وعوامل التواصل مع العالم الخارجي وتأثير تقنيات الاتصال والإعلام، هذا الواقع الاجتماعي بات يفرز سلوكيات فردية وجماعية تمثل تحديًا للنظام الاجتماعي المألوف بحيث بات هذا النظام غير قادر على احتواء التجديد وغير قادر على منعه لذا ستقود هذه الفوضى الخلاقة في الواقع الاجتماعي إلى مواجهات بين مكونات المجتمع يحكم سلميتها قوة النظام الأمني والسياسي لبلدان المنطقة، وربما أن أهم جانب باتت الفوضى الخلاقة تحكمه هو الجانب الفكري والعقدي بحكم تأثيره السائد في المنظومات السياسية والاجتماعية، فعلى سبيل المثال بات الجدال والنقد المتبادل بين الطوائف والمذاهب أو حتى ضمنها حالة يومية بل إن الحذر الذي كان يقيد هذا النقد والجدال في الماضي القريب قد اضمحل وباتت الجرأة في طرح الخلافات وتبريرها وأحيانًا التكفير والتفسيق للمختلف مسيطرة في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وبرزت شخصيات لها تأثير فكري غير تقليدية في منهجها ووسيلتها، لذا باتت الفوضى الخلاقة أيضًا تسم هذا الواقع وتتيح فرصة هائلة للنزاع والخلاف دون ضوابط تحكم هذا وبالتالي لا يمكن أيضًا توقع المحصلة التي ستتشكل من هذا الحراك الفكري إذا بقي دون أن يتطور لمواجهات تهدف لحسم الخلاف لطرف ما.
الفوضى الخلاقة هي حالة سيعم تأثيرها كل بلدان العالم إذا لم يستطع نظامها السياسي والاجتماعي والفكري احتواء التجديد والتعامل مع التغيير في الأنماط والسلوكيات وتكريس احترام القانون والنظام والالتزام في حال الاختلاف بين المكونات الاجتماعية وحماية ذلك بسلطة أمنية متمكنة،
نحن في بلادنا والحمد لله نتمتع بهذا النظام والسلطة المتمكنة التي ستحمي كافة المواطنين من غولة الاعتداء نتيجة الخلاف الفكري، ولكن علينا نحن كمواطنين إدراك أن الفوضى الخلاقة لا تحدث كحدث بل هي تتكون وتنمو وتتطور بفعل الزمن ومساهمات عوامل نقض المألوف، وبقدر ما نستوعب هذه العوامل ونتعامل معها بمعايير الحرية والعدالة وحق الاختلاف سنجعل الفوضى أقل من أن تقود مستقبلنا إلى احتمال مجهول، نسأل الله أن يحفظ بلادنا آمنة عزيزة موفورة النماء والخير بقيادة خادم الحرمين الشريفين -وفَّقه الله-.