د. حمزة السالم
لا يختلف اثنان أن كل إعلام يحاول التأثير على الرأي العام، ويوجهه الوجهة التي تتناسب مع سياسته العامة، وإلا فما فائدة الإعلام إذاً.. فالإعلام الواعي المسئول يُوجه الشعب للمصلحة، لكي لا يتلاعب بالشارع المضللون والمحرضون.. فدور الإعلام هو بناء ثقة الشارع به، لكي يستطيع أن يُوجه العامة للمصالح العليا.. فالإعلام الذي لا يثق به الشارع، تُفهم رسائله على معكوسها من العامة.
ومن سياسات الإعلام الناجح في بناء الثقة، نقل الوقائع كما هي، ولا يتجاهل أي شيء منها.. وبعض الوقائع تصور عكس الحقائق.. فقد ترى طفلاً وأمه مقتولين على أيدي الشرطة.. فنقل هذا المشهد كافٍ لتأجيج الرأي العام على الشرطة، بل وإشعال الاضطرابات.. ولكن عندما ينقل الإعلام هذه الصورة مصاحبة بتفسير أسبابها، كأن تكون الأم انتحارية ملغّمة تريد تفجير باص أطفال، واتّقت بابنها رصاص الشرطة.. فهنا تنعكس الصورة تأييداً شعبياً للشرطة.
والإعلام الفاشل في بناء الثقة، هو من يتجاهل الخبر أصلاً، فتنتشر الإشاعات، ويؤمن بها الشارع لأنه سيعتقد أنه لو كان وراء القصة صورة أخرى، لما امتنع الإعلام عن نقلها.
وقد اُتهمت قناة عالمية شهيرة بالانحياز ضدنا في بعض الأحداث الجارية الآن.. فقلت، ربما الآخرون فتحوا لها المجال بينما لم نفعل.. فوصل صوتهم بينما، لم يصل صوتنا.. فقيل إن للقناة أجندة ضدنا.. فقلت: وما هي هذه الأجندة؟ فلو يقدم لنا مثالاً يكون شاهداً على الدعوى.. فلا يمكن أن يقبل المرء رأياً صادراً عن انطباع شخصي، بلا أدلة تثبته.
فأُرسل لي فيلم وثائقي قديم عن بعض الأحداث صوّرته هذه القناة، ومنذ العشر دقائق الأولى من الفيلم، يتبيّن لك عدم انحيازية القناة، بل موضوعيتها التامة في نقل الوقائع.. ولكن غيابنا برفض المشاركة، هو الذي صوّر الوقائع تصويراً عاطفياً قلبَ الحقائق تماماً كالمثال الذي مهدت به للمقال.. وقد كانت المراسلة تُعيد وتُكرر عند كل مشهد بأنها طالبتنا عدة مرات حتى بعد انتهاء التصوير بعام أن نشارك، ولكن رفضنا ولُذنا بالصمت.. وكأن لسان حالها يقول: إن الصورة التي ينقلها الواقع تحكي خلاف الحقيقة، ولكنها لا تستطيع أن تشرح لوجوب استقلاليتها. والقناة إن تجاهلت الوقائع سقطت مصداقيتها، فلا بد من عرض الواقع، ولكن الإعلام المهني الوطني المضاد هو من تقع عليه المسئولية بالمشاركة، ليجيّر الواقع لمصلحة البلاد بإظهار حقيقة الموقف.
والفيلم، والله قد كان دفاعاً لنا، وإظهاراً لحلم حكومتنا وصبرها ومراعاتها للأقليات، لو أننا فقط شاركنا بعاقل منطقي يعرف كيف يكشف الحقائق، ويقلِّب الأمور على الأفاكين والفوضويين.
حادثة سبتمبر كانت يجب أن تكون جرس إنذار، لأنها بيّنت لنا ضعف القادرين على المشاركة في الطرح الإعلامي القوي.. فنحن قد تعوّدنا على قبول ما يُقال لنا إما شيخ أو مسئول أو متخصص.. لذا لم نخرج بعقول تميّز القول وترد عليه، ولم نُمكّن لها.. فالحكيم العاقل الذي يستحق المسئولية هو الذي يلوذ دائماً بالصمت.
فمثلاً، هذا عادل الجبير وزير الخارجية الآن، كان موظفاً في السفارة السعودية بواشنطن، بل يُقال إنه كان متعاقداً وليس على وظيفة دائمة.. وفي حادث الحادي عشر من سبتمبر، وكنت في أمريكا تلك الفترة ثماني سنوات، فلله در الرجل، كم أسكت أفواهاً كثيرة.. حتى والله إني لأذكر برنامج بيل أو رالي الوقح، انكتم، واعترف بخطئه واستحى وأكرم الجبير، وليس من عادة بيل الوقح إكرام خصومه.
كان عادل الجبير يظهر في كل القنوات والبرامج، تراه وتسمعه في اليوم الواحد عدة مرات لمدة أشهر، يرد بمنطق وقوة تسكت الأمريكيين، أباطرة الإعلام، بالإقناع بالحجة والمنطق وأدب جم، ولكن لم يكن هناك غيره.. وقد كان هذا عرضاً صريحاً كشف عن نقص شديد في الرجال والنساء المؤهلين.. والعجب أنه لم يُستهلك إعلامياً هناك، لقوة منطقه رغم أنه قيل عنه هنا من العاجزين الحاسدين: «ما في هالبلد إلا ها الولد!!»، والإعلام الأمريكي لا يرد أحداً، فلولا أن أرانا هذا العاجز الحاسد من نفسه شيئاً.. نعم لم يوجد إلا هو للأسف آنذاك، الذي يعرف أن يتحدث بمنطقية لا يخرج عن السؤال، بل يُقلّبه على الطرف الآخر، وعنده خلفية علمية تجعله يستشهد بمواقف الأمريكيين أنفسهم، ليقلِّب دعواهم ضدهم.
فمتى نعتبر؟.. فحتى في المستوى المحلي، لا يخرج الوزير ليتحدث للناس، مهما كبرت المقولة ضد وزارته، ومهما انتشرت الشائعات، ولو حتى في الصحف، فإنك لا ترى المسئولين إلا وهم يلوذون بالصمت؟.. على طريقة المشايخ، لماذا؟.. لأنهم عاجزون في الواقع، وشاهد عادل الجبير في حادث سبتمبر يُؤكد ذلك.. فدولة كاملة لم تجد من أبنائها من يُعين عادل الجبير على هجوم الإعلام الأمريكي الضخم الشرس آنذاك.. الجبير فارس مغمور تصدى لجيوش، فحقت ثقة المليك فيه فهو السفير بعد الموظف الصغير، وهو الوزير بعد رحيل الفارس الأمير.
وها نحن في ظل هذه الأحداث، نواصل في طريقتنا الانهزامية في الاحتماء بالصمت التخاذلي في الإعلام الخارجي والداخلي، فالمجرمون والمغرضون والمفسدون تفرّدوا بالإعلام المستقل وبالتواصل الاجتماعي، ونحن لا نزيد إلا أن نبرر لأنفسنا باستخدام أسطورة المؤامرة، فنزعم أن هذه قنوات لها أجندة ضدنا، وما هي ضدنا ولكن تسلطت علينا الثعالب والخنافس لمّا غِبنا عن الساحة، فلا بد من مُضي سنة الله في الحياة في نظامها الكوني القائل:
ومن لا يرد الضد بالسيق والقنا
ويحمي الحجا جارت عليه ثعالبه
ومن لا يذود الذود عن حوض ورده
شبا السيق أو تظما لديه ركايبه