د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
كانت الليالي الست التي قضيناها في (إسطنبول) ممتعةً متعبة، وكنا نأمل أن تمنحنا المحطة التالية من هذه الرحلة نوعاً من الهدوء والراحة، وهاهو مطار (أتاتورك) يستقبلنا مرَّةً ثانيةً لتنقلنا إحدى طائراته المحلية من أقصى الشمال الغربي مروراً بشواطئ البحر الأسود إلى (طربزون) التي تتمدَّد مسترخيةً في أقصى الشمال الشرقي بشواطئها الخلابة وطبيعتها الفاتنة،
لم تستغرق الرحلة أكثر من ساعتين، كانت الساعة تشير إلى الثانية ظهراً حين كنا منطلقين بسيارتنا التي استأجرناها من المطار إلى مقر إقامتنا الذي كنا نرجو أن يكون أفضل من سابقه من حيث الموقع.
لم تكن (طربزون) مدينةً كبيرةً صاخبةً كـ(إسطنبول)، ولم تكن أيضاً ريفيةً صغيرةً هادئة، كانت بين هذين، غير أنَّ هذا لم يكن السبب الرئيس لأن يكون اسمها مدرجاً ضمن مخطط الرحلة، بل لموقعها الاستراتيجي، فهي أولاً مدينةٌ شاطئيةٌ ذات أجواءٍ جميلةٍ وطبيعةٍ رائعة، ثم إنَّ كثيراً من المناطق الريفية الفاتنة التي تميز (تركيا) قريبةٌ منها، لذا تجد العديد من السياح يقيمون فيها وينطلقون منها إلى ما حولها، وقد ساعد على ذلك توفُّر مطارٍ محليٍّ فيها، يمكنك من خلاله الانطلاق منه إلى بقية المدن التركية.
أرشدتنا خرائط (قوقل) إلى أحد الأحياء الجبلية، كان لزاماً علينا أن نصعد مرتفعاتٍ في غاية الصعوبة والوعورة، حتى خشيتُ من عدم تحمُّل السيارة لتلك المنعطفات التي تواجهنا ونحن في طريق الصعود، قضينا وقتاً ليس بالقصير حتى وصلنا إلى وجهتنا، لم أكن على علمٍ بأنَّ السكن يقع فوق أعلى مرتفعات (طربزون)، وخاب الأمل الذي عقدته على هذا الموقع!
دخلنا عن طريق بوابةٍ فاستقبلتنا مجموعةٌ من العمارات العالية، بعضها قيد الإنشاء، سألتُ أحد العاملين فأرشدني إلى مكتبٍ خارجيٍّ مستقلٍّ فهمتُ أنه المسؤول عن الإسكان، كانت صاحبة المكتب امرأةً يبدو على قسمات وجهها الجدية والنشاط، وحين قدَّمتُ إليها أوراق السكن بدا عليها الاستغراب، وبدأتْ تقلِّب الأوراق وكأنها تبحث عن معلوماتٍ ناقصة، ثم توجهتْ إليَّ بكلامٍ لم أفهم منه حرفاً واحدا، حيث كانت تتحدَّث التركية، ولا تعرفُ أيَّ شيءٍ عن الإنجليزية فضلاً عن العربية، ولم يضف مساعدها (عبد المعين) الذي يشاركها المكتب إلا كلاماً زاد الموضوع غموضا، ولم أعرف ما الذي يريدون مني بالضبط، وهو موقفٌ غريبٌ يحدث معي لأول مرة، حيث كانت مثل هذه الأوراق في رحلاتٍ سابقةٍ حاسمةً لهذه المواقف دون الحاجة إلى التكلم بحرفٍ واحد.
إنَّ مثل هذه المواقف البسيطة تكشف لك بوضوحٍ عن أهمية اللغة للتواصل بين البشر، وأنَّ تعلُّم اللغات الأخرى يتيح لك مزيداً من فضاءات التواصل مع الناس، فضلاً عن الاطلاع على رصيدٍ كبيرٍ من الثقافة الإنسانية والتجارب والخبرات، وكم تمنيتُ في تلك اللحظات أن أفهم كلمةً مما تقوله، وهذا ما أثار فضولي لأقرأ عن اللغة التركية، فعلمتُ أنها تعدُّ اللغة الأم لقرابة 83 مليون نسمة، وأنها تنتشر في (تركيا) و(قبرص) الشمالية بشكلٍ رئيس، وتُعدُّ لغةً أقليةً في كلٍّ من (العراق) و(اليونان) و(مقدونيا) و(كوسفو) و(ألبانيا)، وأنَّ مفردات لغتها المعاصرة مكوَّنةٌ من كلماتٍ تركيةٍ أصليةٍ وكلماتٍ فارسيةٍ وعربيةٍ تُركِت لتصبح كلماتٍ تركيةً في حالةٍ مختلفةٍ تماماً عن حالتها في لغتها الأصلية، ومع هذا فإنَّ عدد الكلمات العربية في هذه اللغة يتجاوز 6000 كلمة من أصل 11127 كلمة تُمثِّل المعجم التركي، من أمثال: insan = إنسان، asker = عسكر، hain = خائن، وغيرها.
على كلِّ حال لم يكن أمام صاحبتنا إلا الاتصال بمترجمٍ ليخبرني الإشكال الحاصل، وعلمتُ منه أنَّ الأوراق لم تفصح عن رقم الشقة الخاصة بي، وفي النهاية قررتْ أن تتصل برقم الشركة التي قمتُ بالحجز من خلالها، وبواسطته تمكنتْ من تحديد موقع شقتنا التي كانت بحق فائقة الجمال، ومجهزةً بكلِّ وسائل التقنية والراحة، غير أنها خاليةٌ من جهاز التكييف الذي تفاجأنا بأن جميع شقق العمارة خاليةٌ منه، بسبب الأجواء المعتدلة لهذه المدينة في هذه الفترة، والباردة جدا في الشتاء، لذا كانت المدافئ تملأ جنبات شقتنا البديعة التي لم يشنها غير موقعها المخيف الذي ينبغي أن تسجد لله شكراً في كل مرة تصل إليها، خاصَّةً إذا غرقت المدينة في الظلام الدامس.
كان مخطط الرحلة يقضي بأن نبقى في (طربزون) أربعة أيام، كانت في نظري كافيةً كون المدينة لا تحظى بكثيرٍ من المعالم السياحية، إضافةً إلى أنَّ الغرض الأول من اختيارها أن تكون منطلقاً لمناطق أخرى قريبة تتميز بالطبيعة والأجواء الفاتنة، غير أنَّ حُمَّى أصابتني في أول يومين جعلتني طريح الفراش؛ مما أدى إلى إلغاء زيارة بعض هذه المناطق، ولذا حاولنا التعويض باكتشاف المدينة وما فيها من أسواق وحدائق ومطاعم، وهناك لا يمكن للمرء أن ينسى طعم (الكفتة) الطازجة في واحدٍ من أشهر المطاعم التي تُقدِّم هذه الوجبة الشهيرة في (تركيا)، ووجدناها أكثر شهرة في (طربزون)، حيث تتفاجأ بكثرة المطاعم التي تتسابق على تقديمها، أما أن تتناول هذه (الكفتة) مستمتعاً بمشهد الغروب حين تتأمل الشمس الدافئة وهي تغرق في البحر الأسود، فهي لحظاتٌ لا يجد المرء في اللغة ما يصفها بها.
كان ذلك الصباح استثنائياً حين عقدنا العزم على زيارة (حيدر نبي)، تلك القرية الصغيرة الحالمة، التي تتربع فوق أحد جبال (تركيا) الخضراء بارتفاع يصل إلى 1600 متر، وتقع في الجنوب الغربي من مدينتنا، مبتعدةً عنها بما لا يزيد عن 50 كيلو متر، غير أنَّ الطريق إليها كان مرعباً ومخيفاً بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمات من دلالات، وما أجمل الطريق إلى شقتنا في (طربزون) مقارنةً بهذا الطريق الجبلي الذي يصيبك بالتعب النفسي إذا كنتَ راكبا، فكيف إذا كنت السائق والمسؤول الأول والأخير عن وصول هذه المركبة بمن فيها بالسلامة، كان الطريق ينعطف يميناً ويساراً في صعود دائم، كان لا بُدَّ من أن تكون في كامل تركيزك وقمة انتباهك واستعدادك الجسمي والنفسي حتى يمكن أن تتجاوز هذه العقبة الثقيلة، ورغم أنَّ المسافة لم تكن طويلةً إلا أنَّ صعوبة الطريق تجبرك على أن تتمهل في السير، فيطول الوقت وتزداد المعاناة.
كانت الساعة الثانية عشرة والنصف ظهرا حين أقبلنا على القرية، كان السحاب الأبيض البديع في مقدِّمة المستقبلين، حيث لم يكن بمقدورنا أن نرى ما حولنا أكثر من مترين على أكبر تقدير، لا يمكنني تصوُّر جمال تلك المنطقة الراقصة فوق السحاب، ولولا توثيقها بالصورة لاعتقدتُ أنها ليست سوى حلمٍ جميل، كانت القرية تعانق السحاب حقيقةً لا مجازا، وأجواؤها تفوق الجمال بكلِّ مراحله، مع برودةٍ لطيفة كلما تقدَّم الوقت، لم يكن في القرية ما يلفت الانتباه من جانبٍ حضاريٍّ وتطويري، فليس فيها سوى بضع مطاعم ومطابخ تُقدِّم لزوار هذه القرية أنواع اللحوم الطازجة بأشكالٍ وطرقٍ لا تملك أمامها إلا أن تقف طالباً ما لذَّ وطاب منها، ثم تختمها بالشاي التركي الأصيل الذي يحلو للأتراك تقديمه بتلك الطريقة الجميلة، حيث يضعون إبريقين فوق بعضهما، يكون أسفلهما خاصاً بالماء الحار الذي تحتفظ الشمعة أسفله بحرارته، ويكون الأعلى مملوءاً بالشاي الخالص (العاقد)، حيث تُزاد أوراق الشاي فيه أكثر من اللازم، وبهذه الطريقة يمكنك أن تتحكم بمستوى الشاي من حيث الثقل والخفة، على أن تُترك لك حرية التحكم بحلاوته من خلال مكعبات السكر التي تقدم في طبقٍ مستقل، كانت تلك الجلسة اللطيفة الغارقة وسط السحاب المتراكم البديع من أجمل لحظات رحلتنا الهائمة.
كان الوقت يمرُّ بسرعة في تلك القرية البديعة، وكانت برودة الجو تزداد معه، ومع ذلك كنا نريد استثمار كلَّ دقيقةٍ في تلك المنطقة الاستثنائية التي يبدو أنَّ السعوديين يعرفونها جيدا، لذلك كانوا يتواجدون بكثرة في أنحائها، كنتُ أتمنى من السحاب الذي لازمنا طوال الساعات الخمس التي قضيناها في (حيدر نبي) أن يتلاشى قليلاً لتصفو الأجواء، وتصبح أنحاء القرية أكثر وضوحا، حيث شاهدتُ في السابق صوراً لها دون هذا السحاب، فتمنيتُ أن أعيشها بجميع الحواس، لكنَّ السحاب في ذلك اليوم أبى إلا أن يكون معنا مرافقاً حتى أزمعنا الرحيل قبل غروب الشمس، حرصاً على تبيُّن الطريق الذي لا أريد تخيُّل السير فيه ليلاً فضلاً عن ارتكاب هذه الحماقة، وبهذه الزيارة البديعة نكون قد طوينا ليالينا (الطربزونية) الأربع التي اختلطت فيها روح المتعة مع جمال المغامرة، لنشدَّ الرِّحال بعدها إلى محطتنا الأخيرة.