د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لفتت (تركيا) أنظار السعوديين في الآونة الأخيرة، بوصفها إحدى الوجهات السياحية التي يمكن للمرء أن يولي شطره إليها، ليقضي فيها أياماً للاستجمام والراحة، بعد عناء أشهر طويلة من العمل، كثيرون كانوا يتحدثون عنها بنوعٍ من الإعجاب، ويصفونها بأنها جنة الله في أرضه،
وأنَّ طبيعتها الفاتنة وجبالها الخضراء وإطلالاتها البديعة كفيلةٌ بأن تنسيك كلَّ همٍّ مررت به، وأنَّ السفر إلى (تركيا) بمثابة رحلة عُمُر، ستظل في ذاكرةٍ لا تنسى.
لا أدري لماذا لم تستفزني دعوات الأصدقاء لزيارة هذه الدولة! ولا أعلم لماذا لم تحدثني نفسي بشدِّ الرحال إليها، هل كان هذا بسبب الأوضاع السياسية التي تمر بها المنطقة! أم لقربها من سوريا ضمَّد الله جراحها! أم أنني سبق أن شاهدتُ جمال الطبيعة وعشتُ الأجواء الساحرة في (المملكة المتحدة) وفي (إيطاليا) وكنتُ شاكاً في أن تضيف (تركيا) شيئاً جديداً! أم أن ذلك يعود إلى اعتقادي أنَّ هذه البلاد ليس فيها ما يلفت الانتباه، خاصةً وأنا لا أعرف عن الأتراك سوى أنهم مبدعون في الحلاقة وتصفيف الشعر، ومتفننون في تقديم اللحوم الجيدة الطازجة، وأخيراً ما يضيع فيه بعض شبابنا وكثير من فتياتنا أوقاتهم فيه، حين يتابعون المسلسلات التركية الغارقة في الرومانسية، والطافحة بعذابات الحب، والمكتوية بلهيب الأشواق.
غير أنَّ حبَّ الاستطلاع وإصرار أحد الأحبة على أن أقوم بتلك الزيارة وحثه لي من حلال عرض الصور المغرية حين كان هناك، إضافةً إلى أني كنتُ مرهقاً من عناء العمل لأكثر من سنتين وراغباً بشدة في رحلة أمل لا عمل، وحريصاً على أن أبتعد قليلاً عن حر (الرياض) اللافح، لذا عقدتُ العزم وأنهيتُ كافة الإجراءات والاستعدادات منذ وقتٍ مبكر، ووقع الاختيار على ثلاث مدن، لشهرتها السياحية أولاً، ولأنَّ كلَّ واحدةٍ منها تتميز بخصائص مستقلة تجعل العيش فيها مغامرةً مختلفةً عن الأخرى.
في مطار الملك خالد الدولي حصل معي مشهدان طريفان، الأول حين قابلني أحد مسؤولي أمن المطار ونبهني أنَّ المسؤولين عند بوابة الطائرة لن يسمحوا لي بالركوب بسبب (الشورت) القصير الذي كنت أرتديه، رغم أنه كان ساتراً للركبة وما تحتها، وحين أخبرته أني لم أكن على علمٍ بهذا النظام وأنه ليس لدي بديل حالياً، نصحني بالشراء من محلات المطار أو أنَّ مخططات الرحلة ستتهاوى كلها بسبب هذا (الشورت)! والعجيب أنه كان يؤكد لي بثقة أنهم يطبقون هذا النظام بقوة وأنه لا مجال للتهاون أو المجاملة فيه، وهو ما أخافني وجعلني أبحث عن شيء ينقذني دون جدوى! كان خوفي يزداد كلما اقترب موعد الركوب، إلى أن حانت اللحظة الحاسمة ووصلنا عند البوابة، وهنا مرَّتْ الأمور بسلاسةٍ وسهولةٍ دون أن ينظر إليَّ المسؤول فضلاً عن أن ينظر إلى ملابسي، فأدركتُ أنَّ صاحبنا مهووسٌ بتخويف الناس، ويرغب في أن يكون له شأنٌ لافتٌ في عمله أكبر مما هو عليه!
أما المشهد الثاني فقد حدث حين انتهيتُ من صرف العملة، وقبل أن أتأكد من عدِّ النقود ابتعدتُ قليلاً لأجد مكاناً هادئاً لأفعل ذلك، وعندما أخرجتُ النقود إذا بالمسؤول عن المصرف يصرخ بأعلى صوته ويشير بيديه إليَّ أنْ أرجع! عدتُ إليه مستبشراً ظناً أنه بقي لي شيءٌ لديه، خاصَّة مع قوة العملة التركية مقابل الريال السعودي، وإذا به يطالبني بنصف المبلغ، حيث اكتشف أنه أعطاني الضعف عن طريق الخطأ، وحينها عرفتُ أن الله لم يكتب لي رحلةً مجانية!
كانت عقارب الساعة تشير إلى الحادية عشرة والنصف من صباح الأول من سبتمبر حين أقلعتْ طائرتنا إلى (إسطنبول)، أولى محطات هذه المغامرة الحالمة، استمرت الرحلة قرابة خمس ساعات، كانت جميلةً هادئةً لولا وجود الطفلتين برفقتنا، فقد كان قرار اصطحابهما في هذه الرحلة مغامرةً بحدِّ ذاته، خاصَّةً أن أكبرهنَّ لا تتجاوز السنوات الثلاث!
في مطار (أتاتورك) كان الازدحام لا يُطاق، كان التعب بنا قد بلغ أقصاه، فالذهاب دون نوم، ورحلةٌ مدتها خمس ساعات برفقة طفلتين، ثم حملهما مع مجموعةٍ من الحقائب، والوقوف طويلاً في هذا الصف الطويل، كلُّ ذلك أدَّى بنا إلى إنهاكٍ أكد لي أنَّ السفر قطعةٌ من العذاب، ولم يخفف هذا العذاب سوى رؤية حقائبنا والحبيبة عربة الأطفال التي حملتْ كثيراً من الأعباء، لكنها كانت تريد من يساعدها على إنجاز مهمتها المنوطة بها؛ تحميلاً وقيادةً ودفعا.
كان السكن الخاص بـ(إسطنبول) يقع في منطقة (السلطان أحمد) التي يقع فيها مسجد السلطان أحمد الشهير، وتسمى أيضاً منطقة الجامع الأزرق، وهي من أهم المناطق السياحية التي يجب ألا يفوتها زائر إسطنبول؛ حيث تجتمع فيها أهم المعالم السياحية الخاصة بالمدينة، ثم إن المنطقة تتميز بأهمية تاريخية، إضافة إلى ما تتضمنه من أنواع المتاحف والمعالم السياحية من مساجد وكنائس وبازارات تاريخية ومطاعم شعبية قديمة؛ ولذا كان اختيار هذه المنطقة موفقا، غير أنَّ مشكلتين جغرافيتين سرقتا شيئاً من المتعة في هذا المكان، الأولى: الأجواء الحارة التي لم يلطِّفها سوى بعض النسمات العليلة، الثانية: وعورة المنطقة وصعوبة طرقها، وقد أدركتُ حينها لماذا كان بعض الأصحاب ينصحني بعدم استئجار سيارة، حيث الطرق الضيقة والمرتفعات الصعبة والمنحدرات المخيفة والرصف المتهالك الوعر.
كان مخطط الرحلة يقضي البقاء في (إسطنبول) ستة أيام، وهي فترةٌ معقولةٌ نظير تعدُّد المواقع السياحية، كان لا بُدَّ من جولةٍ قصيرةٍ لاكتشاف المنطقة، كانت تفوح منها رائحة التراث وشجون القدم وعبق التاريخ، كان المكان يجبرك على التصديق بأنك تعيش في قرنٍ آخر لولا السيارات الحديثة ووسائل التقنية، تشعر بذلك من خلال: رصف الطرق، بناء المنازل، فتحات المحلات، طريقة عرض الفواكه والخضار، أصوات العجلات الخاصة بعربات بيع الفاكهة المتنقلة، عشوائية التخطيط، كلُّ شيءٍ حولك موغلٌ في القِدم وناضحٌ بتاريخٍ عريق، والعجيب أنَّ الأهالي متوافقون مع هذه المظاهر ومستسلمون للتعايش معها، وكأنهم خارج الزمن؛ لهذا كله كنتُ أشعر أنَّ هذه المنطقة ستطلعنا على الكثير من المعالم السياحية والمواقع التراثية التي تختبئ في زواياها.