د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ومثل هذا الكتاب اللطيف يتميز بأنه مناسب لكثير من المستويات الثقافية، حيث لا يصعب على من له أدنى حظ من الثقافة أن يستوعب ما فيه، إضافة إلى موضوعه اللطيف وطريقته الماتعة في العرض والتبويب، فضلاً عما يتضمنه من فوائد وحكم وأمثال،
وما يشمله من مخزون ثقافي يقدمه الثعالبي للقارئ على أطباق من متعة الحرف وجمال الدلالة.
ومما رواه الثعالبي في الباب الخاص بالمعلمين والقراء:
- عن ابن مجاهد قال: ما أكلتُ عند ثقيل قط إلا ذكرتُ قول الله تعالى: (وطعاماً ذا غُصَّة)!
- وقال في كلام له: أنا مستغنٍ عن فلان كاستغناء سورة براءة عن بسم الله الرحمن الرحيم!
- وهجا بعضهم قوماً فقال:
قد حفظوا القرآن واستظهروا
ما فيه إلا سورة (المائدة)
- ووصف آخر جُبَّةً فقال:
دبَّ فيها البلى فلانت ورقَّتْ
فهي تقرا إذا السماء انشقَّتْ
***
ومما رواه في ذكر الأطباء:
- أنه لما تنسَّك أبو أيوب الطبيب كان من دعائه: اللهم اسقنا شربةً من محبتك تُسهِلنا ذنوبَنا.
- ووصف أبو الحسن الصيمري رئيساً فقال: هو دمويُّ المزاج، صفراويُّ الذكاء، سوداويُّ الرأي، ولولا أن في لفظة البلغم الكراهة لقلتُ: بلغميُّ الأناة!
- ومن أمثالهم: كل كثير عدوٌّ للطبيعة.
- ومنها: الطبُّ حفظ الصحة.
- وأيضاً: مجالسة الثقيل حمى الروح.
- ومنها: العاقل يترك أكل ما يحب ليستغني عن العلاج بما يكره.
- ومن أشعار أبي الفتح البستي في الطبِّيَّات ما أنشده لنفسه:
لا يغرَّنْك أنني ليِّن اللمس
فعزمي إذا انتضيتُ حسامُ
أنا كالورد فيه راحة قومٍ
ثمَّ فيه للآخرين زُكامُ
***
ويعقد الثعالبي باباً خاصاً بذكر الورَّاقين، فيروي عنهم:
- أنه سُئل أبو حفص الورَّاق عن حاله فقال: عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس أشد سواداً من الزاج، وحظي أخفى من شِقِّ القلم، ويدي أضعف من القصب، وطعامي أمرُّ من العفص، وسوء الحالة ألصق بي من الصمغ.
- وذمَّ رجلاً فقال: أبغض من المحبرة.
- وسُئل بعضه عن السرور فقال: جلودٌ وأوراق، وحبرُ مُراق، وقلمٌ مشَّاق.
- وكان أبو محمد الأعسر يقول: إذا جمع الورَّاق بين حسن الخطِّ وصحة المكتوب، فقد جمع بين الحسنتين.
***
وفي باب ذكر الشعراء يروي الثعالبي:
- أن مروان بن أبي حفصة نظر إلى ابنه يصلي صلاة خفيفة فقال: صلاتك هذه رَجَز!
- وقيل لمسلم بن عمرو: أحسنت جداً في مدح أمير المؤمنين المهدي، فقال: لأنه أحسن في الصِّلات، واللُّهى تفتح اللَّهى!
- وبلغ بردخت الضبي أن حفص بن وبرة يطعن على شعر المرقِّش ويذمه، فقال فيه:
لقد كان في عينيك يا حفص شاغلٌ
وأنت كشدِّ العود فيما تتبَّعُ
تتبَّعُ لحناً من كلام مرقِّشٍ
وخَلْقُكَ مبنيٌّ على اللحن أجمعُ
فعينك إقواءٌ وأنفك مُكفأٌ
ووجهك إيطاءٌ وأنت المرقَّعُ
- وكان خلف الأحمر يقول: الشعر ديوان العرب، وبستان الزمان، والشعراء أمراء الكلام.
***
وفي ذكر المنجمين يروي أبو منصور:
- أن أبا الفتح البستي قال:
قد غضَّ من أملي أني أرى عملي
أقوى من المشتري في أول الحَمَلِ
وأنني راحلٌ عمَّا أحاولهُ
كأنني أستدرُّ الحظَّ من زُحَلِ
وله أيضاً:
لئن كسفونا بلا علةٍ
وفازت قداحهُمُ بالظفرْ
فقد يكسف المرءَ مَن دونه
كما يكسف الشمسَ جرمُ القمرْ
***
أما الباب الثالث عشر من اللطف واللطائف فيخصه الثعالبي بالتجار والسوقة، ويروي عنهم مجموعة من الأمثال والأقوال التي هي من جنس صناعتهم، ومن ذلك:
- التجارة إمارة.
- رأس المال أحد الربحين.
- الأرباح توقيفات.
- النسيئة نسيان.
- السلف تلف.
- من اشترى ما لا يحتاج إليه باع ما لا بُدَّ منه.
- تعاشروا كالإخوان، وتعاملوا كالأجانب.
- التدبير نصف التجارة.
***
وفي باب أخير عقده الثعالبي لذكر أصحاب صناعات مختلفة، ومن ذلك:
- أنَّ خبازاً قيل له: كم بيننا ودار فلان؟ فقال: مقدار ما تأكل رغيفين!
- وأنَّ جندياً شكا حزنه وبثه فقال: قد تعرَّقتني الهموم، فصرت كالسيف الناحل، والرمح الذابل.
- وأنَّ عاشقاً وصف ريحاً حار ة تتبعها ريح باردة فقال: كأنها نفَس مهجور، ثم تبعتها شمال فقال: كأنها نفَس معشوق.
***
معلومات الكتاب: اللطف واللطائف، لأبي منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي، المولود سنة 350ه والمتوفى سنة 429ه، تحقيق: د. محمود عبدالله الجادر، مكتبة دار العروبة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1404ه، يقع الكتاب في 94 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن 16 باباً، وقد خدمه المحقق خدمة متميزة، فقدَّم له بمقدمة وافية، وأوضح كثيراً من ألفاظه الغامضة، وترجم أعلامه، وأحال نصوصه إلى كتب المؤلف الأخرى، وختمه بمجموعة من الفهارس المتنوعة.
Omar1401@gmail.com