محمد جبر الحربي
«أحببتُ نفسيَ بعد أنْ أسكنتها
حبَّ البلادِ.. فأورقتْ بالناسِ.
ورسمتُها شجراً وكمْ علّمتُها
أن لا تثورَ على ندى الكرّاسِ.
ولكمْ فرحتُ وقد رأيتُ ثمارَها
ولمحتُ في أفيائها حرّاسي!»*
والتاءُ الكتاب والآيات والكلمات والتلاوة، وينفد ماء البحر ولا تنفد كلمات الرحمن ولا تتبدل:
{وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا} 27 الكهف، والملتحد الموئل في نفس السورة {لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلا} 58، وهو الملجأ.
ومن آياته سبحانه التينُ والزيتون، ومن نعمه لأهل هذه الجزيرة العربية التمر والنخيل.
والزيتونةُ والنخلةُ شجرتان طيبتان مباركتان ترمزان لتاريخٍ وحضارةٍ ودين، وإذا كانت الزيتونة رمزاً لفلسطين اليوم بمسجدها الأقصى، وغصن الزيتون هو غصن السلام الذي كسره صهاينة إسرائيل، فإن النخلة رمزٌ للجزيرةِ العربيةِ بمكتها ومدينتها، ورسالة الإسلام، رسالة الحق والخير والسلام، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)} إبراهيم، فالكلمة الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله، والشجرةُ الطيبة النخلة.
والنخلةُ عربيةٌ حرةٌ، فهي عاليةٌ طيبةٌ صابرةٌ كريمة كأهلها، حاليةٌ برطبها وتمرها، وهي تشترك مع الناقة في تحمل البيئة القاسية وندرة المياه.
والنخلة والناقة آيتان معجزتان، ضرب الله بهما الأمثال لينظروا ويتدبروا:
{فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (13 الرحمن)
{أفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}(20 الغاشية).
ولا يختلف اثنان على أن قوة الأمة كانت في عصر الفتوح حين ثبتت أركان الدولة على أنهار المعرفة حيث التدوين والترجمة، والانفتاح على الآخر، وأن عصرنا هذا هو عصر التقنية والعلوم والتحالفات الكبرى على الصعيدين الاقتصادي والسياسي والعسكري.
لكن الجماعات لدينا إذا أمسكت بقيمةٍ اعتقدت أن لزاماً عليها التفريط أو التخلص من القيمة الأخرى. فنحن لا نعترف بالتكامل أبداً، ولا بالقيم المضافة.
ومن ذلك أنه عندما ارتقى تعلم العلوم الطبية والهندسية والاقتصادية والتقنية واللغات، ضعف وشح استخدام اللغة العربية والفكر والآداب والفنون المرتبطة بها. ومن المفترض أن لا تناقض البتة بين الاثنين.. الآداب والعلوم.
فمن النادر مثلا أن تجد طبيباً أو مبرمجاً أو عالماً رياضياً أو فيزيائياً يجيد لغته، أو يتذوق آداب أمتهِ وفنونها، ويتعمق في فكرها وتراثها، ما عدا ظواهر عبقرياتٍ فردية، لا تشكل تياراً فاعلا، في ما عدا التخصصات في العلوم الشرعية والقانونية.
أما على الصعيد الصحوي فكل جديد بدعة، وكل تطور أو تغيير موجب في الحياةِ أو في الإبداع ضلالة، لذك ابتكروا أدباً إسلامياً، فهل كان أبو تمام والمتنبي والصّمّةُ والأخطل أدباء تحت هذا اللواء وهذه التسمية، وهل سنطبقه على المعلقات والشعر الجاهلي؟! لكن القوم شغلوا بتجزئة المجزأ، وتصنيف المصنف!
إنه التطرف والتعطيل الذي قاد إلى ما نحن فيه، فهذا التقنين أضعف الأدب ولم يفده، بل خرج معظم نتاجه باهتا ضعيفاً متكئاً على النظم، وسبب ربكة وفرقةً في المشهد الإبداعي العربي الناطق باللغة العربية المبينة، حين أخرج نتاج كل من لا تنطبق عليه شروط الصحوة منه.
والعكس صحيح لدى المتطرفين من الطرف الآخر حين ابتُذل الإبداع وتفّه، وقد ساهم من ساهم في تغريبه، ونزع ما فيه من دفءٍ وخصوصية.
أما في الجامعات اليوم فإنك تبتهج إن استطاع الطالب كتابة اسمه، ونبذة تعريفية عنه بدون أخطاء قبيحة في القواعد والإملاء والتعبير، وهذا الخلل ليس ببعيدٍ أبداً عن أكاديميي « الطفرة»، نحن لا نريد منهم أن يكونوا لغة، نحن نريدهم أن يحسنوا كتابةَ أسمائهم وفروضهم بلغة عربية سليمة.
لقد أصبحت اللغة العربية السليمة وعاءً يستحضر فقط عند الضرورات كالمناسبات والملتقيات والمؤتمرات ولا بأس في بيتين شعريين قديمين في امتداح العلم والمعلم!، وهذا الوعاء لا يستخدم لا في الجامعات ولا في وسائل الإعلام، بما في ذلك القنوات الحكومية الرسمية، التي أصبحت تتحفنا في صباحاتها ومساءاتها بمقدمين ومقدمات يشترط في قبولهم، أو من المؤهلات المرجحة لقبولهم، عدم التحدث بالفصحى أو العربية المبسطة، وبلغتهم: « أن تكون إيزي أما الميكروفون»، ولا بأس في أن تكون « مرتاحاً ومتفاعلاً مع الميكروفون» لكن البأس والبؤس أن تتبسط حتى تصبح تافها، حين يكون سبيل التبسط في العاميات المحلية المختلفة، المطعمة بنكهات محلية عربية، تغلب عليها اللبنانية، وفي الضحالة في اللغة وفي المعلومات..
كلّ ما هو آتٍ آت، فالوعي مات، فذبلت على أيديهم وماتت الكلمات!