محمد جبر الحربي
« إذا ما أتتْنا الريحُ من نحوِ أرضِه
ِ أتتْنا بِريّاهُ فطابَ هُبوبُها
أتتنْا بِمسكٍ خالطَ المسكَ عَنبرٌ
وريحُ خُزامى باكرتْها جنوبُها»*
هذا من فيض الصِّمّة بن عبد الله بن الطفيل القشيري، والصّمّةُ الشجاع لدى العرب، وهو شاعرٌ أمويٌّ توفي 95هـ، والتاء تشرق من تائيته البديعة في الغربةِ والحنين، وتتجلّى في سمائها حتى لكأنه مفتونٌ بها فتنته بحبيبتهِ ريّا:
ألا من لعينٍ لا ترى قللَ الحمى
ولاجبلَ الأوشالِ إلا استهلّتِ
ولا النيرَ إلا أسبَلتْ وكأنّها
على ربَدٍ باتتْ عليه وظلّتِ
لجوجٌ إذا لجّتْ بكيٌّ إذا بَكتْ
بَكَتْ فأدقّتْ في البكا وأجلّتِ
كما هتَنتْ طَرْفاءُ ناشَتْ غصونها
جنوبُ وقد كانتْ من الليلِ طَلّتِ
ألا قاتلَ اللَهُ الحمى من محلّةٍ
وقاتلَ دنيانا بها.. كيف ولّتِ
غنينا زماناً بالحمى ثم أصبحتْ
عراصُ الحمى مِن أهلِها قد تخلّتِ
وقلتُ لأصحابي غداة فراقها
ودِدْتُ البحورَ العامَ بالناس طمّتِ
لتنقطعَ الدّنيا التي أصبحتْ بنا
كمثلِ مصاباتٍ على الناسِ عمّتِ
ولكنّما الدّنيا كفيءِ غمامةٍ
أظلّتْ بغيمٍ ساعةً.. واضْمَحلّتِ
وسنستشهد هنا بشعره لغلبة التاء عليه، ولا عجب، فهو نتاج الغربة، والحرقة على ابنة عمه ريّا، وتوقه للعودة إلى نجد: الحمى والمتربع..
قِفا إنَّهُ لا بُدَّ من رَجْعِ نَظْرَةٍ مُصَعَّدَةٍ شَتّى بها القومُ أوْ مَعا
لِمُغتَصَبٍ قد عَزَّهُ القومُ أَمْرَهُ يُسِرُّ حَياءً عَبْرَةً أنْ تَطَلَّعا
تَهيجُ لهُ الأَحْزانُ والذِّكْرُ كلَّما تَرَنَّمَ أوْ أَوْفى مِنَ الأرضِ مَيْفَعا
قِفا وَدِّعا نَجْداً ومَنْ حَلَّ بالحِمى وقَلَّ لِنَجْدٍ عندنا أنْ يُوَدَّعا
بنَفْسي تِلْكَ الأرضُ ما أَطْيَبَ الرُّبى وما أَحْسنَ المُصْطافَ والمُتَرَبَّعا
وهذه الأبيات من رائعته في حبيبتهِ وابنة عمه ريّا، ومطلعها:
خليلي عوجا مِنكُم اليَومَ أودعا
نحيِّي رسوما بالقُبَيبَةِ بلقعا
أَرَبَّتْ بِها الأَرواحُ حَتّى تَنَسَّفَتْ
مَعارِفُها إِلّا الصَفيحَ المُوَضَّعا
وَغَيرَ ثَلاثٍ في الدِيارِ كَأَنَّها
ثَلاثُ حَماماتٍ تَقابَلنَ وُقَّعا
أَمِن أَجلِ دارِ بِالرَقاشَينِ أَعصَفَتْ
عَلَيها رِياحُ الصَيفِ بدءً وَرُجَّعا
وهي مثالٌ رائعٌ لامتزاج المرأة بالأرض، والحبيبة بالحمى، في خاطر الشاعر القديم والحديث، والتعبير عن كل تلك المشاعر المختلطة، بهذا التكرار الأخاذ للتاء التي تتسيد المشهد هنا:
حننْتَ إلى ريَّا ونفسكَ باعدتْ مزارَكَ من ريَّا وشَعْباكما معَا
فما حسنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاًوتجزعَ أن داعي الصَّبابةِ أسمعَا
وليست عشيات الحمَى برواجعٍ
عليك ولكن خلِّ عينيكَ تدمَعَا
بكتْ عينيَ اليُسرَى فلمَّا زجرتُها
عن الجهلِ بعد الحلْمِ أسبَلَتا معَا
وأذكُرُ أيَّامَ الحمَى ثمَّ أنْثَني
على كبِدِي من خشيةٍ أنْ تصدَّعا
وقد وردت أعلاه التي، وتلك:
فأمّا التي فهي مبسّطةً في المعجم: اسمٌ موصولٌ مُبْهَم معرفة للمفردة المؤنَّثة ولا يتمُّ إلاّ بالصِّلة، مذكره: الّذي ومثنَّاه: اللّتان واللَّتين وجمعه: اللاّتي واللَّواتي واللاّئي.
وأما تلك: فاسمُ إشارة للمفردة المؤنثة البعيدة، اللام فيه للبعد، والكاف المفتوحة لخطاب المفرد المذكر والكاف المكسورة، لخطاب المفردة المؤنثة (كُما) لخطاب المثنى بنوعيه (كُمْ) لخطاب جماعة الذكور (كُنَّ) لخطاب جماعة الإناث.
ولا تكتمل منظومة الصّمّة ونجد وريّا والغربة والحنين والتاء هنا إلا بإيراد هذه الأبيات الشهيرة، وإن كانت تنسب لقيس بن الملوح كذلك:
أقولُ لصاحبي والعيسُ تهوي
بنا بينَ المُنيفةِ والضِّمارِ
تمتَّعْ من شميمِ عَرارِ نجد
ٍفما بعدَ العشيَّةِ من عَرارِ
ألا يا حبَّذا نفحاتُ نجدٍ
وريَّا روضهِ بعدَ القِطارِ
وأهلُكَ إذْ يحلُّ القومُ نجداً
وأنتَ علَى زمانكَ غيرُ زارِ
شهورٌ ينقضينَ وما شعرنا
بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ
فأمّا ليلهنَّ فخيرُ ليلٍ
وأطولُ ما يكونُ من النهارِ
هكذا كانوا، يحبون أرضهم وأهلهم مهما اغتربوا وغابوا، لا كما يحصل اليوم مع الذين يبيعون الأرض وهم بين أهلهم، ولا يصلوا الرحمَ، بل هم يصلون إلى حد قتل الآمنين في المساجد، ويسعون إلى قطع الأوصال بالفتن والحروب الكلامية والفعلية، ويعادون أوطانهم في حلهم وترحالهم كأن لم ينهلوا من فراتها، أو يغتنوا بخيراتها!