محمد جبر الحربي
«هذي حياتي وأعني أنتِ سيدتي
هل تشرقُ الروحُ لولا كنتِ في ذاتي»*
التاءُ أنتِ قبلي أنا، متقدمة دائماً في حياتي ومفرداتي حتى تثبت وتورق وتغدو ملونةً، والتاء البنات الزهرات أجمل الكائنات، نبات الحياة وبهجتها وزينتها المشتهاة، واليوم هن المستقبل بعقولهنّ الجميلة وحضورهن المتوقد اللافت في الجامعات والبيوت.
والتاء الابنةُ والأخت، والتاء التلفت بحثاً عن قيمة، أو دهشةٍ جديدة.
والتاء أنتم تبذرون الحق والعدل والخير والحب والجمال والسلام، فيكون حصادكم ما زرعتم، وتحاربون نبت ونتاج شياطين الإنس والجن من فتنٍ وتعصبٍ وطائفيةٍ وإرهابٍ وحروب.
والتاء التّروي والتبتّل والتأمّل، واشتعال الروح بالحبّ والمعرفة فكأنها شعلةٌ ودليلٌ للعابرين التائهين..
والدعوات الصالحات للأهل والطيبين والطيبات، والأوطان قبل الذات.
والتاء الصفات والميزات، وخيرها ما اختص به نبينا المختار، خاتم النبيين محمدٌ العربيّ الأمين عليه من الله السلام وأزكى الصلوات، وبها الاقتداء، لا بادعاءات من تفرقوا وتشيعوا وتشعبوا، وتوهموا أن الدين دينهم لا دين الله ونبي الله، فتكبروا على الخلق، وأفتوا وافتروا، وقادوا أنفسهم وأتباعهم إلى التهلكة.
والتاء التراب، ولا ثرى كثرى الأوطان، ولا أطهر من تراب وطني.. وقد جعل الله الأرض، كل الأرض، طاهرةً ومصلى للمسلمين.. ونظم صفوفهم فكانت كصفوف الملائكة.
والتربة كيفية ونوعية لا كمية، لذلك نحرص على التربة الخصبةِ والري والغرس، ومن ذلك تربية أبنائنا، لكي نراهم نبتات خيرٍ راسخة، ممتدةً جذورهم، عاليةً أشجارهم، دانيةً ثمارهم، يعرفون تراثَهم، ويحسنون قراءةَ حاضرِهم، وينحتون المستقبلَ بصبرهم وتضحياتهم وحكمتهم وبصيرتهم.
ولذلك كانت البساتين جَنة حيث التنوع والسعادة، وخير الجنان جنان المعارف التي تغرس في الصغر، والأم جنة، بل الجنة تحت قدميها.
والمرأةُ جنةٌ ونار، وهاتان حالتان ثابتتان في سنّةِ الخالق، وليس لها تبديلٌ ولا تحويلٌ: {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}.. وهما متغيرتان في الخلق والنفس البشرية:
فمقابلَ زوجة نوح وأهله وزوجة لوط واعلة، هنالك مريم العذراء وزوجة فرعون آسية:
{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ* وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} 10-12 التحريم.
وهنا من جمال التاء ما يمكن أن أطلقَ عليه اسم: (تاءُ مريم)، فهذه الأفعال مرتبطة بها وبقصتها ارتباطاً وثيقاً:
{فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (33) سورة مريم.
فالتاء الولادة والحياة والموت، وعلى الأمهات أنْ يَعلَمنَ أنّ الحياةَ لا تنتهي إلا عندما يكتب الله نهايتها - لأنني أراهن يذبلن عندنا قبل منتصف العمر - وأن الموت سنة الله في الخلق، لذلك كان الإيمان منحة التسليم والقبول، فعليهنّ أنْ يعتنين بصحتهنّ وابتساماتهنّ، ويعشنَ الفأل والأمل والسعادة، ويزرعن الجمال في حدائقهنّ، ويعلّمن ذلك في البيوت وفي المدارس..
وقد كانت لي تجارب فريدةٌ مع الموت، فعدا أني فقدت كثيراً من ورقات شجرة عائلتي مبكراً وعشت يتماً متكرراً متداخلاً طوال مراحل حياتي، فقد نجوت من الموت بفضلٍ من الله مرات، وقد دوّنت ذلك في كتاباتي وشعري، ومن ذلك هذه السيرة الصغيرة المكثفة:
وبالأمسِ مِتُّ
وأذكرُ أنِّي خلالَ الحياةِ الَّتي عِـشْتُ مِتُّ
وقدْ كنتُ مَيْتاً قُبَيلَ الحَياةِ
وعندَ بُلوغِ الفِطَامِ
تَوطَّأَ طفلٌ تُسابِقُ ضِحْكتُهُ الرِّيحَ ظَهْرِي
وقَالوا بأنَّيَ كِدْتُ
وَطِفلاً ركضْتُ
تَسَاقَطَتِ العُمُدُ الخَشبيَّةُ بينَ يَديَّ
وقالَ ليَ العَاملُ اليَمَنيُّ: «لكَ اللهُ» مِن وَلدٍ
فَنَفَضْتُ التُّرابَ وقُمْتُ
وهَا أنا ذا في الثَّلاثينَ أفْقُدُ غُصْناً فَغُصْناً من الشَّجَرِ العَائليِّ
فإنْ مِتُّ.. مِتُّ!*
ولكنها الحياةُ تعبرها بالفرحِ، وبتؤدةٍ وصبرٍ فالجمال في البطءِ والتأمّل، أَنْ آمنتَ واقتنعتَ وعملتَ وأحببتَ فزرعتَ الجمال وحصدت، وإِنْ كانت تأتي وتمضي بين صوتين أو صرختين متشابهتين كما يقول أبو العلاء المعري.. ساعة الولادة وساعة الموت!