عبدالعزيز السماري
وصلت ظاهرة التكفير السياسي في المجتمع إلى حافة الخطر، بعد أن تمت إعادة تصدير العقل التكفيري من قرون الجهل والتخلف، ثم تحويله إلي سلاح يقتل من خلاله الإنسان المسلم أخاه المسلم من أجل أغراض سياسية..
في الثقافة المتخلفة عن الركب الحضاري يكون التكفير بمثابة السلاح السياسي المشهور من غمده، والذي يهدف إلي التغيير الجذري الشمولي على أكوام الجثث في الشوارع، فمن خلاله تتحول الجريمة وإراقة الدماء والقتل المتوحش إلى عمل يؤجر عليه فاعله حسب تفسيرهم السياسي للدين.
كان انتشار مثل هذا الخطاب بسب غياب الخطاب المدني في المجتمعات الدينية، والتي تحاول أن تضع النقاط على الحروف في مطالبها السياسية بدون التحريض على القتل، وربما ساهم غيابها في طمس مسار التحول المدني، وبالتالي كان الحل البديل عند المتربصين في استدعاء خطاب التكفير والتصفية الدموية من الماضي.
تكمن خطورة خطاب التكفير أنه يسلّم مباشرة أحكام التنفيذ للعامة، وبالتالي يرفع عنهم الشعور بالذنب، فهم ينفذون حكم الله في الكفار، وذلك يفتح الباب لإشاعة فوضى غير مسبوقه كتلك التي تحدث الآن في سوريا وليبيا، وذلك ليس بجديد في الخطاب الديني الإسلامي، فقد عمت الفوضي بعد الفتنة بسبب التكفير السياسي، وكان الحل في استدعاء المحدثين لإخراج الأمة من أزمتها التكفيرية.
كان الحل في العصور الأولى في اجتهاد الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت 241هـ)، وذلك عندما أعاد إلى الساحة منهجاً أجمع عليه تسعون رجلاً من التابعين وأئمة السنة، وأئمة السلف، وفقهاء الأمصار على أن السنة التي توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم تفيد أن الإيمان: قول وعمل؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية). وقال: (الإيمان: يزيد وينقص؛ فزيادته بالعمل، ونقصانه بترك العمل، وبالتالي أصبح الإيمان قاعدة عريضة للأمة، ولا يخرج منها المسلم، ولكن يزيد إيمانه بالطاعة، وينقص بالمعاصي.
ساهم اجتهاد الإمام أحمد في إخماد الفتنة في السياسة الشرعية، وفتح الباب على مصراعيه لإقصاء الفرق التي تستخدم التكفير في العمل السياسي، لكن ذلك لم يدم طويلاً، وكما تعلمنا من التاريخ تحول اجتهاد ابن حنبل عند أتباعه إلي عقيدة، وأصبحت مخالفتها وصمة على الآخر، قد يصل الحكم عليها إلى التبديع والتكفير، وذلك باب واسع.
وأحسب أن الدخول في تفاصيل هذا الباب غير ضروري في هذه العجالة، فالغرض هو تناول عودة استخدام التكفير في الخطاب السياسي في هذا العصر، وشيوعه بين العامة، وكيف تحول إلى وسيلة دموية تهدد المجتمعات الآمنة، وكما ذكرت أعلاه يأتي فتح الأبواب للخطاب الديني في التوسع سبباً لعودة التكفير، ويساهم في ذلك تغييب الخطاب المدني.
لعل من أهم معالم هذه العودة انتشار برامج الفتاوى وكثرة المفتين وخروج آلاف الفتاوى التي تحرم أساليب الحياة المعاصرة، و من خلال مراقبة لخطوات حياتنا اليومية، تصدر فتوى تحريم مقابل مختلف ممارسات المواطن الحالية منذ خروجه وعائلته من البيت إلى السوق، و إلى سفرهم إلى الخارج للمتعة، ومشاهدتهم للبرامج التلفزيونية والرياضية، وكأنهم بذلك يرفعون من حالة التوتر في المجتمع، ويوجهونه إلى مقصلة التكفير.
يهدف خطاب التكفير الدموي الحالي إلى تهديد أمن الدوله من خلال منهج ليس بغريب عن المجتمع، ويظهر ذلك في استهداف بعض المتطرفين للجنود، وقتلهم، وقد أشاعت بعض اللقطات المصورة الرعب بين الناس، وظهر استنكار شديد لهذه الأساليب الدموية، وهو ما يعني أن المجتمع يقف ضد الفكر التكفيري، ولا يقبله، لكنه لازال يفتقد للمسار المدني البديل..
وهو ما يجعل الطريق ممهداً للقضاء عليه من خلال مراجعة الخطاب الديني عبر إيقاف فتاوى التحريم العشوائية والتكفير السياسي إلى غير رجعة، وفي نفس الوقت إحلال التنمية وثقافة العمل في العقول، وتطوير أساليب المجتمع المدني، والتي أجد فيها الحل الجذري للتعصب والتطرف، ولنا عبرة ودروس في خلو المجتمعات العملية في الشركات الكبرى من لوثة التكفير والتطرف، والله المستعان.