قاسم حول
هناك في عالمنا السينمائي كلمة «كومبارس» وتعني الممثلين دون الثانويين الذين يشكلون فرق الجيوش في السينما أو الحشود في مشاهد الكوارث أو مشاهد اللاجئين المتدفقين للعالم عبر البحار. كومبارس في كل الأفلام ذات الطابع الملحمي أو في مشاهد الأعراس أو في مشاهد دفن الموتى والشهداء أو في مشاهد التظاهرات الاحتجاجية. وينقسم الكومبارس إلى فئتين، كومبارس عادي يكون ضمن الحشود، وكومبارس يؤدي فعلا أو قولا داخل المشهد ويطلق عليهم «الكومبارس الذكي». وهؤلاء لهم مديرو أعمال، فأنت كمخرج ما أن تريد تنفيذ مشهد سينمائي فيه حشود حتى تذهب نحو «المقاولين» ليأتيك بالكومبارس لتنفيذ المشهد السينمائي، وفي الغرب يعيش هؤلاء من مهنتهم هذه بسبب كثرة الإنتاجات السينمائية ذات المشاهد الجمعية أو الملحمية. وهم يتقاضون مبالغ غير قليلة حيث ميزانيات الإنتاج كبيرة تقدر بمئات الملايين من الدولارات. فيتقاضى الكومبارس مبلغ نظيف ما يقرب من مائتين وخمسين دولارا في اليوم فإذا إستغرقت المشاهد عشرة أيام مثلا فهو يتقاضى الفين وخمسمائة دولار ومدفوع أجور إطعامه لثلاث وجبات ومدفوع أجور تنقلاته بين مواقع التصوير. فهي مهنة في الغرب يمكن أن يعيش منها الإنسان.
أما نحن في المنطقة العربية فبسبب ميزانيات أفلامنا البائسة فإن الكومبارس يتقاضى أقل من عشرة دولارات لليوم! ويلجأ المخرج عادة إلى طلبة الصفوف الأولى من معاهد الفنون المسرحية والسينمائية لتشغيلهم «كومبارس» وهم يعتبرون ذلك نوعا من التدريب في مهنة المستقبل كي يصبح الكومبارس في الغد نجما شهيراً.
عندما ذهبت إلى مدينتي في البصرة بعد غياب أكثر من ثلاثين عاما لتنفيذ إخراج فيلم «المغني» الذي دعمته قناة الآرتي الفرنسية. كانت عندي مشاهد إحتاج فيها لبضعة عشرات من الكومبارس فسعد طلاب معهد الفنون في البصرة بخوض تجربة سينمائية في مدينتهم. ففي بلداننا تحتل العواصم مركز الصدارة في المدن يجد فيها المرء المهنة ويستطيع أن يكمل دراسته في العاصمة وأن يتزوج في العاصمة وأن يصعد الطائرة من مطار العاصمة وأن يلتقي مع جمهور المسرح في العاصمة وأما المدن فهي ليست سوى محطات تأهيل تدفع بمواطنيها حال تخرجهم من المدارس الإبتدائية لإستكمال دراساتهم في العاصمة فيما المدن في الغرب هي عواصم في كل مجالات الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية.
من هذا المنطلق يحرم فنانو المدن في العراق ومنها مدينة البصرة من فرص العمل في السينما ولذا جاء تصوير فيلمي «المغني» في مدينة البصرة فرصة لتحريك جو الثقافة في المدينة ودخلت الكاميرات في الشوارع وإنتعش حال الكومبارس. كنت حقيقة سعيدا في التجربة وتعرفت على عينات نظيفة وحالمة من الشباب الذين فرحوا في أن يخوضوا تجربة سينمائية في مدينتهم.
أنجزت الفيلم وبقي أن أنجز الفيلم الأصعب، إستعادة وثائقي التي أخذها الجنود الأسرائيليون يوم غزوا بيروت عام 1982 فقد دخلوا القبو في البناية التي أسكنها وكانت حقيبتي داخل القبو فحملوها معهم إلى تل أبيب وبقيت بدون جنسية ولا شهادة جنسية ولا دفتر الخدمة العسكرية. كان علي أن أبدأ من الصفر فذهبت إلى بغداد «العاصمة» كي أبدأ معاملة الحصول على شهادة الجنسية وأنا لا أفهم لماذا يحمل المرء شهادة الجنسية طالما لديه جنسية عراقية. وحتى أثبت شخصيتي كنت بحاجة إلى شاهدين يؤكدان إسمي وإسم أبي وجدي وإسم أمي وأبيها وجدها. وقالوا لي يوجد عند باب مديرية شهادة الجنسية شهود يؤيدان صحة المعلومات مجرد أن تدفع لهم ما يعادل العشرة دولارات وسوف يشهدون على صحة معلومات شخصك الكريم ويقسمون على صحة المعلومات! ولكن قبل أن تأخذ معك شهود الزور هؤلاء عليك أن تذهب لكي تملأ إستمارة المعلومات وتضع الإستمارة في ملف من الكرتون لأن قسم إستلام المعلومات ليس لديهم ملفات تحفظ مستنداتك! سألت عن مكان الحصول على إستمارة فأشاروا لي نحو شاب متكيء على جدار بناية مديرية الجنسية يبيع ويملأ الإستمارات. وذهبت نحو الشاب وأمامه صحيفة وعليها إستمارات وحتى لا تطير في الهواء وضع فوقها صخرة. وحين وصلت إليه قال لي «هل تريد أن تملأ إستمارة شهادة الجنسية أستاذ قاسم؟» قد يكون إسمي معروفا في العراق ولكن وجهي غير مألوف كثيرا لغيابي عن الشاشة أكثر من ثلاثين عاما، فكيف تعرف علي؟!
سألته كيف عرفتني .. قال لي أنت مخرج وأنا ممثل. وذكر لي أسماء المسلسلات التي مثل فيها، وأضاف أنا لست من ممثلي الصف الأول بل أنا من الكومبارس. وفهمت منه أنه ممن نطلق عليهم إسم «الكومبارس الذكي» وهذا الكومبارس يؤدي دورا قصيرا أو يقول بضع كلمات أو يؤدي فعلا في الفيلم فهو يختلف عن الكومبارس العادي الذي يمشي في الشارع أو يكون ضمن حشود الجنود في المعارك. سألته لماذا تركت التمثيل وصرت تبيع وتملأ الإستمارات؟. أجاب لم تعد ثمة مسلسلات ولا أفلام وحتى أوفر الخبز قررت أن أمتهن بيع الإستمارات وإملائها لمقدمي طلب شهادة الجنسية. في السينما يدفعون لي عشرة دولارات في اليوم. أنا هنا أربح في كل إستمارة حين أملأها خمسة دولارات. وهي مهنة مربحة أكثر من التمثيل. سألته عن وضعه الإجتماعي وفيما إذا كان متزوجا ولديه أسرة وأبناء يكفي ما يربحه لإسعاد أسرته بالحد الأدنى من العيش؟. فتأملني مثل شخص جاء من المريخ ثم أنفجر ضاحكا وكاد أن يسقط على قفاه من شدة الضحك!