قاسم حول
لا أدري كم هم على حق أولئك الذين اتفقوا على أن يرموا هواتفهم النقالة ويهشموا أجهزة التلفاز ويكسروا أجهزة التدفئة والتبريد في عدد من بلدان أوربا ويسكنوا الغابات والجزر النائية ليولعوا النار من احتكاك الأغصان ويطبخوا ويتدفأوا على الحطب شتاء ويصنعوا من الخيش مروحات هوائية يشدونها بين أغصان الأشجار ويحركونها لتدفع نحوهم بالهواء الطبيعي المنعش، وهم بهذا يريدون أن يعيشوا سعداء وتطول أعمارهم بعيداً عن الضجيج والجنون في المدن والحياة المعاصرة.
تبدو الصورة للحياة للوهلة الأولى بأنها سهلة، ووفرت على الإنسان الكثير من الوقت ومن الجهد، لكننا لو تأملناها مليا لوجدنا الإنسان نفسه يتحول إلى آلة ميكانيكية يمشي عاريا أمام الدولة وأجهزتها الرقابية. لقد وضعونا في التقنية الحديثة وبات من الصعب الخروج من أسرها. الناس يركضون على سبيل المثال نحو أعمالهم في القطارات فترى في ساحات محطات القطارات أجهزة صغيرة منتشرة في كل مكان والمسافرون يهرعون نحوها حاملين بطاقاتهم ويمررونها على تلك الأجهزة التي تخرج أصواتا رتيبة في كل مكان تصيح وتعلن عن صحة محتويات البطاقة ليركض صاحبها نحو القطار الآتي وينزل في المحطة التي يقصدها وأيضا ينزل الناس من القطارات أفواجا ويصعد آخرون وكلهم يتوجهون نحو تلك الماكنات الصغيرة يمررون بطاقاتهم وتصيح الأجهزة معلنة صحة البطاقة ومحتوياتها وهي تحسب المسافة بين المحطة والمحطة الأخرى. بهذا تكون أجهزة الرقابة على المجتمع على معرفة بالمسافر والمكان الذي يقصده. وفي حسابات المصارف تسري البطاقة الذكية لإيداع وسحب المال من الحساب ويضع الفرد المواطن المتواضع تحويشة العمر في حسابه بضعة مليمات خوفا من عاتيات الدهر فيدخل اللصوص ويخترقون عالم التقنية ويفرغون حسابات الناس في المصارف من المال ليجد المواطن حسابه مدينا فينتحر الكثيرون. وقد لعب التلفاز وبرامجه دوراً سلبياً في الحياة دون أن نحسب لهذه التطورات حسابات تتعلق ببناء المجتمع وبناء الدولة والعلاقة بينهما على أسس صحيحة. نستورد كل ما نراه على الشاشة وبعد ذلك ينهار الناس وتتحطم أعصابهم وهم مرغمون على استعمال التقنيات الجديدة صاغرين يتسلمون الرسائل عبر أجهزة الحاسوب عن ترتيب حياتهم دون أن يكون لهم قرار فيما يرسمه لهم حواسيب الدولة وحواسيب مديرية الضرائب وحواسيب المصارف.
أليس من حق الإنسان أن يرفض هذا الواقع ويتمرد عليه، واقع التقنيات الجديدة التي كنا نظن أنها رحمة فيما هي نقمة حولت حياة الناس إلى جحيم. من هنا تشكلت مجاميع إنسانية رمت بأجهزة الهاتف وحطمت أجهزة التلفاز ورمت بكل بطاقات المصارف الذكية وعادت نحو الغابات والجزر النائية لتعيش الحياة الفطرية والبدائية الأولى.
لقد صار الناس وبشكل خاص الجيل الجديد يمشون في الشوارع، شباب وفتيات وهم يتحدثون مع أنفسهم فيخال المرء أن هؤلاء مصابون بحالة من الجنون، فيما هم يضعون سماعات هواتفهم في آذانهم ويتنقلون في مكالماتهم بين شخص وآخر على مدى اليوم بفضل الأقمار الاصطناعية. وكلهم بدون عمل ولا إنتاج لا ندري من يوفر لهم كل تلك المبالغ في اقتناء أحدث الهواتف النقالة ويصعدون سياراتهم الفارهة لحين أن نقرأ بالأخبار عن سرقات بيوت أوقتل كبار السن في منازلهم أو مصادرة كميات من المخدرات عبر المطارات والمحطات.
من هنا جاءت رغبة أعداد كبيرة من أهل أوربا كي يتفقوا للعيش في الغابات كي تطول أعمارهم وينعمون بسعادة الهدوء وسعادة التأمل، تأمل الطبيعة مثل ما كان أهلنا ينعمون في العيش تحت ظلال الخيمة ويسافرون قوافل في صحارانا بين مدننا الجميلة دون أن يطلبوا تأشيرة الدخول.
كانت الرحلة بين بغداد ومكة على جمل في قافلة حنون لأداء فريضة الحج هي أقرب إلى الله من السفر اليوم في طائرات الخطوط الجوية.
الحج في تلك القافلة فيه الكثير من الصورة الشاعرية ومن التقوى ودلالاتها. ولو شئت أن أرسمها بألوان الأحبار وألوان النباتات والورود لشكلت لوحة فنية نادرة أجمل بكثير من صورة الحاج وابنه يصوره بكاميرا الهاتف!
من هنا جاءت الرغبة الجمعية في أوربا لرفض حياة التقنية التي سلبت حرية الناس وتكاد أن ترميهم في أتون الحجيم!
ولنراقب ما يحصل الآن في العالم وفي بلداننا بالذات!