قاسم حول
عام 1985 التقيت الموسيقار «قادر ديلان» في مؤتمر للمثقفين العراقيين المقيمين خارج وطنهم، وكان يحمل معه عينات من الموسيقى التي يبدعها تأليفاً وقيادة في توزيعها الموسيقي. بقيت استمع إليها وأتساءل، كم من الموهوبين لا نعرفهم سوى بطريق الصدفة!؟ كان قادر ديلان يقيم في براغ وحيداً حزينا يحمل هموم وطنه ويحمل هموم شعبه الكوردي.
ويوم احتجت الى موسيقى لأحد أفلامي وأنا أقيم في اليونان قفز قادر ديلان إلى مخيلتي، فاتصلت به ووجهت له دعوة إلى اليونان لكي يرى مشاهد الفيلم ويعد له الموسيقى المناسبة. وعاد ليؤلف ويكتب الموسيقى ويوم خبرني عن إنجاز الموسيقى سافرت باتجاه مدينته براغ، مدينة الموسيقى والفن.
يوم زرته في داره وجدت على الجدار ملصقا كبيراً لفرقة موسيقية روسية من الشباب الموسيقي المجدد، وقد اتخذت من اسمه عنواناً لفرقتهم الموسيقية «فرقة ديلان الموسيقية».
أسمعني على آلة «الترامبيت» مقاطع من الموسيقى وسرني أنه كتب إضافة إلى موسيقى الفيلم، حلما موسيقيا يراوده منذ زمن. موسيقى اسمها «سيمفونية الكورد» يتحدث فيها عن معاناة شعبه الكوردي وأحلامه، ولكنه لم يتمكن من تنفيذها حيث تحتاج إلى ثمانية وعشرين عازفا محترفا!
سألته عن ميزانية تنفيذ هذه السيمفونية وفيما إذا كنت قادرا على تنفيذها ضمن موسيقى الفيلم فذهبنا كي نتفاوض مع الفرقة السيمفونية لدار الأوبرا التشيكية. وتم الاتفاق على تنفيذ «سيمفونية الكورد» مع موسيقى الفيلم في ستوديو دار الأوبرا!
وفي نهاية العمل وبعد أن اكتمل العزف واستمعنا إليه، وأنا داخل الاستوديو طلبت منه أن يعزف بنفسه لحن «الأذان» فعزف لي بنفسه موسيقى «الأذان» بطريقة فيها الكثير من التجلي والصوفية.
بعد أن أنهينا تسجيل الموسيقى في 23.05.1990 جلسنا نحتفل بالنجاح وبتحقيق حلم «سيمفونية الكورد» الذي راوده وكتبه عبر سنوات.
سألته «كم عمرك» قال لي في الستين وأتمنى لو كنت في الخمسين وحتى في التاسعة والخمسين لأن عاما واحداً إضافيا قد احتاج إليه»!
كان حزينا، قال، والدمعة في عينيه تكاد تسترخي.. فترتد.
- كلما أنجزت عملا أخشى أن العمل الذي يليه يصعب إنجازه!
أتساءل الآن وقد رحل عنا قادر ديلان تاركا معي «سيمفونية الكورد» ماذا يحتاج الشعب الكوردي، وماذا تحتاج الشعوب المضطهدة أو المستلبة الحقوق؟
أظن ان الشعب الكوردي يحتاج إلى موسيقى «قادر ديلان» فهل يحتفظ الشعب الكوردي بموسيقى «قادر ديلان»؟ هذا الشعب الذي تناثر على سطح الكرة الأرضية يحتاج إلى هوية ثقافية أكثر من حاجته إلى الهوية السياسية مع أهمية العمل السياسي، ولكن الهوية الثقافية قد توفر عليه سفك الدماء في المواجهات مع خصومه أو مستلبي حقوقه.
لو فكرت الشعوب المضطهدة بترسيخ هويتها الثقافية، ثقافة أساطيرها وثقافة شعرائها وثقافة ألحانها التراثية وأعيادها وألوان ملابسها وألحانها وثقافة الأعراس والولادة وكل طقوس الحياة، وأقامت المؤتمرات أمام شعوب العالم قائلين «نحن شعب» وهذه هويتنا الإِنسانية فيقدمون الأفلام عن حياتهم ويسمعون الألحان عن جبالهم ووديانهم وأديانهم لصلى معهم المجتمع الدولي على نغم «الأذان» الذي عزفه الموسيقار «قادر ديلان» وحده في ستوديو دار الأوبرا في براغ.. وكان يمكن أن يسمعنا صوت الأذان من أعماق وديان وجبال كوردستان.
ترأست لجنة تحكيم مهرجان السينما الكوردية الذي انعقد في العاصمة البريطانية للفترة من الثلاثين من نوفمبر حتى السادس من ديسمبر عام 2007، وبحكم تلك المسؤولية شاهدت كل الأفلام الكوردية من أنحاء العالم، أفلام روائية طويلة وأفلام وثائقية طويلة ومتوسطة الطول وقصيرة وأفلام تجريبية واكتشفت مواهب كوردية. وصراحة فوجئت بتلك المواهب المدهشة والقدرات الفنية عالية المستوى التي ترتقي بالفن السينمائي إلى القياسية العالمية.
في افتتاح المهرجان وفي ختامه عزفت الموسيقية الكوردية الأستاذة «تاره الجاف» على قيثارتها السومرية ألحانا موسيقية تألقت فيها ورحلنا مع ألحانها وأدائها في عوالم ساحرة الخيال.
حسنا، سألت نفسي، إذا كان الشعب الكوردي يملك كل مواهب هذه الثقافات من الموسيقى والتصوير وهذه القدرة على تجسيد حياة الكورد في الجبال والوديان وفي المنافي وفي تناثرهم على جغرافيات العالم من خلال الأفلام والموسيقى، فلماذا لا ينهض هذا الشعب عبر هويته الثقافية التي سوف تكون بالتأكيد مؤثرة في المجتمع الإِنساني إلى جانب نضالهم السياسي حيث سيتأثر وينحاز العالم بالضرورة للهوية الثقافية أكثر بكثير من الهوية السياسية؟!
لا الشعب الكوردي ولا غيره من الشعوب المستلبة الحرية ينبغي أن يتخذ من البندقية «هدفا» بل ينبغي أن يتخذ من الهوية الثقافية وسيلة وهدفاً، من موسيقى «تارة الجاف» ومن أفلام المبدعين الكورد، ومن موسيقى قادر ديلان «سيمفونية الكورد» هوية ثقافية، لأن الهوية الثقافية هي صياغة شعب موهوب وطيب هو الشعب الكوردي، حينها سوف يعزف العالم ومن منصة هيئة الأمم المتحدة ومن منصة مجلس الأمن، سيمفونية الكورد!