د. عبدالحق عزوزي
الأمين العام لجامعة الدول العربية كان قد وصف سنة 2014 بأنها أسوأ عام مر في تاريخ الأمة العربية، في حين أن جيمس كلابر، رئيس مجلس المخابرات الأمريكي في شهادته أمام الكونغرس وصفها بأنها أكثر الأعوام دموية على مدى 45 سنة...
وهذا كلام صحيح. فلقد انفجرت الحروب المذهبية والطائفية داخل البلد الواحد وعبر الحدود، وتغيرت بعض الأنظمة السياسية لكي تصل دولها إلى مرحلة التفكك كليبيا مثلا، وليسيطر فاعلون إرهابيون مسلحون وميليشيات مسلحة على أراضي شاسعة في منطقة الشرق الأوسط. ومن يقرأ التقرير الأخير الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية حول الإرهاب في العالم يبقى مصدوما، لأن جزءا كبيرا من هذا الإرهاب العالمي هو من عقر دارنا وترعرع في مجتمعاتنا ليصبح فيروسا لا يخمد. فحسب التقرير، فإن الهجمات الإرهابية وقعت في 95 دولة خلال عام 2014 ولكن ركزت بشكل أساسي في منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا وغرب أفريقيا، بينما تصدرت سوريا في عدد الوفيات بنسبة 80 في المائة من إجمالي الوفيات. وأكد التقرير أن منطقة الشرق الأوسط لا تزال المسرح الرئيسي للأنشطة الإرهابية في عام 2014 مع تصاعد نفوذ تنظيم داعش وتفاقم الصراع في سوريا وعدم الاستقرار في العراق، إضافة إلى الوضع الأمني الهش في اليمن وليبيا.
وأبرز التقرير الصادر في 388 صفحة صعود التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق خلال عام 2014 مثل تنظيم داعش، و»جبهة النصرة» والتنظيمات التابعة ل»القاعدة»، مشيرا إلى «الاستيلاء غير المسبوق» على الأراضي في العراق وسوريا من قبل تنظيم داعش. وقال التقرير إن الإدارة الفاشلة في اليمن وسوريا وليبيا ونيجيريا والعراق خلقت بيئة مواتية لظهور التطرف والعنف، واستخدمت الجماعات الإرهابية مثل «داعش» هجمات أشد عنفا، وشمل ذلك القمع الوحشي للمجتمعات الخاضعة لسيطرتها وقطع الرؤوس بهدف ترويع المعارضين، واستهدف «داعش» الأقليات الدينية مثل المسيحيين والإيزيدين، وأيضا المسلمين من الشيعة، والقبائل السنية الذين تحدوا حكم «داعش».
وفي هذا الباب، جاء كتاب السراب ليعطي لنا تحليلا وصفيا قل نظيره، وليتطرق إلى مختلف التيارات الدينية السياسية نشأة وتطورا، ولنفهم من خلاله أن الإصلاح السياسي أصبح ضروريا مع تفاقم ظاهرة الإسلام السياسي وللدخول في عمليات الإصلاح الديني...
والكتاب لا مثيل له يشرح الواقع ويستعمل الحجج الدامغة والعقلانية للرد، ويستشرف المستقبل ويستحضر التاريخ وعلوم الدين والسوسيولوجيا الاجتماعية وغيرها في موضوع حساس يشغل الخاص والعام، ليس في وطننا العربي وحسب وإنما العالم بأسره: إنه الإسلام السياسي... فالكتاب يطرح أسئلة عديدة، وهي عبارة عن إشكاليات مقارناتية معتمدة في أدبيات المناهج العلمية في الأطروحات (كالدكتوراه) والمعتمدة في أعرق الجامعات العالمية،
وتشير المقدمة إلى أن الكتاب يسعى إلى تسليط الضوء على الاستغلال السياسي للدين وآلياته وأنماطه ومظاهره وعواقبه ونتائجه، وذلك من أجل فهم أعمق لما يدور في العالمين العربي والإسلامي ومحاولة تفكيك الكثير من العقد والإشكاليات التي تعرقل التنمية والتطور، وتغذي الفجوة الحضارية التي تفصل بين العديد من الدول العربية والإسلامية من ناحية والتقدم والتطور الحضاري من ناحية ثانية.
انطلاقا من الدراسات المستوفية والدقيقة التي قام بها الدكتور جمال سند السويدي في كتابه السراب في نشأة وتطور أهم التيارات الدينية السياسية في الوطن العربي، خرج الكاتب بقناعة أن الخطاب الصادر عن الجماعات الدينية السياسية، سواء فيما يتعلق بفكرة الحاكمية أو غيرها، وما ينطوي عليه من توظيف للآيات والأحاديث في تحقيق أهداف هذه الجماعات ومصالحها في انتزاع السلطة والحكم في دول العالمين العربي والإسلامي، وارتكاب الجرائم وإشعال الفتن باسم الإسلام يعتبر تقولا وافتراء على الله، وذلك من خلال التلاعب في تفسير الآيات وتحميلها معاني وتأويلات مغايرة لما أنزلت له، في تجرؤ وافتراء حذر منه سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حين قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (33 سورة الأعراف)، حيث جاء الافتراء اللفظي والتقول على المولى عز وجل في درجات التحريم عقب الشرك بالله مباشرة ضمن أنواع المعاصي وفي ذلك يرى المفسرون أن أعظم معصية على الإطلاق أن تقول على الله ما لا تعلم، ويستشهدون على ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ} (68 سورة العنكبوت) حيث ساوت هذه الآية الكريمة بين من يفتري على الله بالقول ويختلق نصوصا لا أصل لها في الدين الحنيف، ومن يكذب بما أنزل من الحق سبحانه وتعالى...
كما توصلت الدراسة الميدانية التي أورد صاحب كتاب السراب نتائجها في الفصل السابع إلى نتائج عدة ومهمة، حيث رأت المستطلعة آراؤهم أن أهم التحديات التي تواجه العالمين العربي والإسلامي هي بالترتيب: الأوضاع الاقتصادية، ثم تحقيق الأمن والاستقرار، ثم محاربة التطرف الديني، والفساد المالي والإداري. وهذه النتائج تتسق مع نتائج استطلاع الباروميتر العربي الذي أجري في 11 دولة عربية كما يعتبر أغلب أفراد العينة أنفسهم متدينين، وقد أفادوا بأنهم يلتزمون التزاما كبيرا بالعبادات، ليتوافق الاعتقاد مع الممارسة. وبرغم تدين معظم أفراد العينة، فإنهم يرون أنه يجب ألا يكون للإسلام السياسي تأثير على الدولة. وتوضح هذه النتائج أن الجماعات الدينية السياسية لم تستوعب أولويات مجتمعاتها، كما لم تفطن إلى مغزى التدين الفطري الذي تتسم بهذه المجتمعات، وأنه لا يعني بالتبعية ميلا إلى بناء نموذج ديني في الحكم وفقا لمنهج الجماعات الدينية السياسية، حيث تشير نتائج الاستطلاع الواردة ضمن الفصل السابع إلى مفارقات ينبغي الانتباه إلى دلالاتها وأبعادها من قبل الباحثين والدارسين، حيث تصدر الوضع الاقتصادي، بما يشمله من فقر وبطالة وفساد وغلاء، أهم التحديات التي تواجه العالم العربي من وجهة نظر المستطلعة آراؤهم من المواطنين والعرب المسلمين المقيمين بدولة الإمارات العربية المتحدة، تلاه تحقيق الاستقرار والأمن، ثم محاربة التطرف الديني، والفساد المالي والإداري. وقد يكون من باب المفارقة أن هذه الأولويات على ترتيبها الحالي، أو حتى بترتيب مغاير لم تكن تحظى بالأهمية ذاتها ضمن أجندة قادة الجماعات الدينية السياسية التي تولت الحكم في دول عربية وإسلامية عدة في الآونة الأخيرة، حيث سبقتها قضايا واهتمامات لا علاقة لها بحياة الشعوب ومعاناتها مثل السيطرة على مفاصل الدول والهيمنة واحتكار السلطة والتمدد السياسي والاجتماعي وغير ذلك. وهذه النتائج تتفق تماما مع ما رصده مشروع الباروميتر العربي وتؤكده، ولا سيما فيما يتعلق بالتراجع الملحوظ في شعبية الجماعات الدينية السياسية، وإدراك الشعوب العربية والإسلامية حقيقة هذه الجماعات وما ترمي إليه من مصالح سياسية وأهداف ذاتية لا علاقة لها تماما بأهداف هذه الشعوب ومصالحها. وكان واضحا من نتائج الاستطلاع أيضا، أن تجربة السنوات الماضية قد خلفت ندوبا عميقة في الوعي الجمعي العربي والإسلامي، حيث حجب المستطلعآراؤهم ثقتهم عن الجماعات الدينية السياسية تماما، بل إن تفضيلاتهم لأنظمة الحكم قد دفعت بالرغبة في حكم هذه الجماعات إلى أسفل قائمة طويلة من الخيارات والبدائل. فيما انعكست هذه التجربة أيضا على توجهات المستطلعة آراؤهم فيما يخص تجارب حكم الجماعات الدينية السياسية في بعض البلدان العربية والإسلامية، واعتبروا أنها كانت فاشلة. ولذا يبدو من الطبيعي أن يكون تصور عينة الاستطلاع لمستقبل هذه الجماعات، سواء في الحكم أو في الحياة السياسية قاتما. وهذه النتائج تبرهن على زيف ادعاءات قيادات الجماعات الدينية السياسية وإصرارهم على تبني خطاب «المؤامرة»، وأن هناك أيادي خفية عملت ضدهم وأسهمت في رفض الشعوب لهم، ما يعني استمرار نهج تلك الجماعات في الهروب من الحقائق وعدم امتلاكها الجرأة الكافية للمكاشفة ونقد الذات, واستلهام الدروس واستنباطها من التجارب السابقة، وآثرت مواصلة لعب دور «الضحية» والعزف على وتر المظلومية التاريخية برغم تباين الظروف والمعطيات.