أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
في العقل، وفي النفس (مشاعرِ القلب)، وفي الطبيعة (خارجِ النفس) أمورٌ متعارضةً حَـمَلَ الماركسيون تعارضَها على التناقض.. والتناقضُ يُحَتِّمُ صراعاً يزول به أحدُ المتناقضين.. ومن أقطاب الماركسيين (موس كافين)، و(جي يبس)، و(جورج بولينزر) الذين بنوا فلسفتهم على دعوى تلك المتناقِضات في كتابهم (أصول الفلسفة الماركسية)،
وهكذا فعل زعيمهم (ستالين) في كتابه (المادية الجدلية والمادية التاريخية).. والماديةُ الجدلية تعني صراعَ (نَفْيِ النفي المُستلْهَمِ من الهُيامِ الهِيجَلي.. ومثلُ هذا في كتاب (الكُرَّاسة الشيوعية) لزعيمهم الشرقي (ماوتسي تنج)؛ وبعض هذه الكتب تُرْجم قديماً، وأفرغتُ مكتبتي من رُكامها، ولم يبقَ إلا ما قَمَّشْتُه منها في كُنَّاشتي، ولم آسَ إلا على أسفار (لينين) عن الفن التي فَرَّطتُ فيها؛ لأنه عَسُرَ عليَّ فهْمُها، ثم طلبتها فتعذَّر عليَّ وجودُها.
قال أبو عبدالرحمن: في العقل أفكار متناقضةٌ، وهكذا غرائزُ النفس، وهكذا مشاعِرُ القلب، وهكذا أحوالُ الطبيعةِ الخارجية.. هي تناقضاتٌ وجودية لا حُكمية، وهي تناقضاتٌ غير مُحالة؛ فليس من المحال أن أقول مُخْبِراً لا حاكماً: (في عقلي أفكار تحتمل أنَّ هذا الذي أراه إنما هو جدولُ ماءٍ غزيرٍ مُنْسابٍ، وتحتمل أنه سرابٌ إذا جِئْتُهُ لم أجده شيئاً.. وفي نفسي غريزة تريد البطش والعُدْوان، وفي نفسي غرائز الحب والصبر والتسامح.. وفي قلبي مشاعر فرح وبهجة، وفيه مشاعري ترحٌ وانقباض.. وفي الطبيعة رجال في شراسة السِّباع المتوحِّشة، وفيها رجال على صفة دُيُوثة الخنازير القذرة.. كلُّ هذه تناقضاتٌ بلا ريب؛ وكلها موجودة مُتَفرِّقة بلا ريب، وليست مُحالة ألبتَّة؛ لأنني لم أحكم باجتماعها أو ارتفاعها، وليس عندي ثالث غير مرفوع؛ فقولي (في البشر الحياةُ والموت) وأنا أعني حقيقة معناهما لا مَجازهَ: خبرٌ عن وجودين متناقضين غير مجتمعين؛ فذلك خبرٌ صادق لا إحالة فيه.. ولكنَّ التناقض في الحُكْم الجَمْعي حينما تقول: (زيد الآن لا حيٌّ ولا مَيِّت) وأنت تريد حقيقة معناهما؛ فهذا محال لا يستطيع العقلُ تصوُّرَه، ومحال أنْ يكون موجوداً بهذا الجمع، كما يستحيل أن تقول: (هذا الخنزير الآن ليس قذراً ولا طاهراً، وليس غيوراً ولا ديُّوثاً).. إلا أن الغيور والديوث كانا في آنٍ قصير لا يظهر به إحْدى الحالين؛ فالحاكِمُ بأحدهما بانٍ على علمه بطبيعة الخنازير، وغيرُ العالم صامتٌ عن الحُكم وهو يعلم أنه: إما كذا، وإما كذا.. كما يستحيل أنْ تقول: (هذا الرجل تجاه ذلك الرجل مَعْنيٌّ به، وغير معنيٍّ به الآن، باطش به عدواناً وغير باطش به، وذو علاقة به ولا علاقة له به، وكل ذلك الآن !!).. والفارق بين وجود المُتناقضاتِ أنَّها غير مجتمعة، وهي غير محالة، وأنَّ الحكمَ فيها بدعوى وجودها مجتمعة في الآن والزمان: قائم على عدم (الثالث غير المرفوع)؛ وذلك مُحال؛ فإنْ نَفَى الأمرين مع وجود الثالث غير المرفوع: كان ذلك غير مُحال.. و(الآنُ) زَمَنٌ سَيّْالٌ غيرُ قارِّ؛ فحينما ينتهي قولُك (الآنَ): يكونُ ما بعده زمَنٌ مُسْتَقْبلِيٌّ، وقولُك الذي انْتَهى: زمن مَضَى، وقد عُنِيَ الفلاسِفَةُ بفَلْسَفةِ هذه الظاهرة، ونَقَلَ السِّيْرافيُّ هذه الأصداءَ في شرحه (الكتابُ) لسيبويهِ في آخِرِ تقسيم سيبويهِ الأفعال إلى زمن كانَ، وزمنِ لم، وزمن كائن؛ وقد أَتَقَصَّى هذهلظاهرة في تحقيقي بعضَ الْمَسائِل التي دَرَسْتُها من فلسفة (هيجل).. وقد يكون غير المرفوع أكثر من واحد كاختلاف الآن والمكان، واختلافِ دلالة اللفظ بِصْرفه عن حقيقته إلى مجازه كقول الخنساء عن أخيها: (لا حيٌّ فَيُرْجَى، ولا مَيِّتٌ فَيُبْكَى).. ومِنْ غير المرفوع اختلاف الهُويَّة والكيفية والإضافة.
قال أبو عبدالرحمن: وما أجْملَهُ الماركسيون تحت عنوان (التناقض) مختلف جداً بثنائيَّة التناقُضِ الوجودي والحكمي التي أسلفتها.. والتناقض الحُكمي ليس على عمومه، بل هو أحد ثلاثة أحوال حُكْمِيَّة: الأول ما لا يمكن للعقل أنْ يتصور إثباته ونفيه في آن واحد؛ لتخلُّفِ ثالثٍ مرفوع؛ وذلك هو التناقض المُحال.. وكذلك ما لا يمكن للعقل أن يتصوَّره إثباتاً، وهو اجتماع الضِّدين؛ فهذا أيضاً تناقض محال.. والثاني أحوال حُكْمِيَّة يتصوَّر العقل إثباتها ولا يتصوَّر نفيها سواء أكان المنفيُّ متعيِّناً أو احتمالِياً؛ وذلك هو احتمال نفي أحد الضدين كقولك: (فلان راكِعٌ ساجد) وأنت تريد حقيقة اللفظ ووِحدةِ الزمن، ولا تريد أنه يُمضي فراغَه لعبادة ربه إما راكعاً وإما ساجداً؛ فالثالث المرفوع موجود بأضداد كثيرة؛ فيمكن أن يكون نائماً غير راكع ولا ساجد تعييناً، ويمكن بالاحتمال أن يكون قائماً أو مضطجعاً أو راكضاً أو راكعاً.. والثالث أحوالٌ حكمية تُسمَّى تعارضاً وليست تناقضاً ولا تضاداً، وهي تعارضٌ في الذهن لا في الواقع ينتفي بتوَقُّفِ مَنْ لم يعلم المتعيِّن من الأمرين، ويستيقن أن اجتماعهما محال.. ويرتفع عند مَن علم بالمتعيِّن كمن علم الناسخ من المنسوخ، فاستيقن أن النصين كلاهما حقٌّ، وكلُّ واحد له حُكْمه في زمنه.. ومنه ما يكون مُنجلياً التناقُضُ فيه عند فحول المجتهدين كالعلم بأنَّ استخراجَ الخاص من العام يُبقي بقيةَ العامِّ على عمومه.. وهذا التعارضُ من أعظم ما يواجه المجتهدين في الجمع بين النصوص، ويرفع الله به درجات المتميِّزين بالفكر والعلم في استقصاء النصوص، وتوثيق الثبوت والدلالة؛ وهو الركن الركين فيما ألَّفه العلماء عن أسباب الاختلاف.
قال أبو عبدالرحمن: والماركسيُّ يريد إفْسادَ الأرضِ والحرث والنسل، وإصابةِ العقول بالخبال، وحجْزِ القلوب في دائرة القلق؛ وذلك بالفلسفة الممروضة تعمُّداً لا المريضة واقعاً؛ إذْ يحاول الماركسيُّ بحيلته الخاسِئة نَفْيَ الحقائق الثابتة من وجودِ المُتناقضاتِ غير مجتمعة.. وأمُّ المتناقضات عندهم إحالةُ اجتماعِ النقيضين أو ارتفاعهما؛ لأنه لا يوجد ثالث غيرهما، وهو المُسمَّى (الثالثُ المرفوع).. وإحالةُ الجمعِ بين الضدين؛ لأنه جمعٌ بين هويتين مختلفتين ليس بينهما ثالث غير مرفوع، ولا يستحيلُ رفع الضِّدين؛ لوجود ثالث أو أكثر غيرهما.. وهذه الإحالة مشروطة بالأمور التالية:
الأمر الأول: أنْ يكون الحكمُ على الشيئين حُكْماً على القابِلَين مثلَ الحياةِ والموت -وهما نقيضان بمقتضى حقيقة اللغة لا مجازها كما سلف ذِكْره من قول الخنساء: (لا حيّْاً فيرجى، ولا ميتاً فيبكى)-؛ فهذا على المجاز.
والأمر الثاني: أنْ يكون الجمعُ بين النقيضين غيرَ عَمَلٍ يُحَوِّل هُوِيَّةَ النقيض إلى هويةٍ أخرى كالاستقامة والاعوجاج؛ فالخط المستقيم هُوِيَّتُه الاستقامة ُ، ونقيضه الإعوجاجُ، فتستطيع أن تحني الخطَّ المستقيم عملياً؛ فلا يكون مستقيماً مُعْوَجاً في آن واحد؛ بل تغيَّرت هُوِيَّةُ المستقيم بالعمل، فكانتْ هُوِيَّتُه الإعوجاجَ.. والمربع والمثلَّث والمستطيل والمستدير أضداد، وتستطيع بالعمل أن تجعل المستدير مُرَبَّعاً فتتغيَّر الهوية بدون جمع بين الضدين.
والأمر الثالث: أن يكون الجمع بين النقيضين أو الضدين غَيرَ عملٍ يُنْتِجُ هُوِيَّةً رابعةً مع بقاءِ كلِّ واحدٍ على هُوِيَّتهِ في الأصل كما في المزج بين العسل، والحليب، وعصير البرتقال؛ فهذا المَزْجُ هُوِيةٌ رابعة.
والأمر الرابع: أن يكون الجمع في غير ما هو متفرق في الوجود؛ وإنما هو في الحكم على جَمْعِ هويتين متفرقتين في الوجود في آن واحد؛ وهذا هو فَرْقُ ما بين التناقضات الوجودية والحُكْمِيَّة.
قال أبو عبدالرحمن: في إحدى المُناسباتِ إنْ شاء الله تعالى: سأذكر ضِمْنَ معاني مفردات (نظرية المعرفة والعلم) عن معنى التناقض، وعن معنى السببية امتدادَ الفوارقِ بين ما هو تناقضٌُ أو تضادٌّ حُكْمِيٌّ، وما هو وجودي، وحسبي ههنا: العلمُ بأنَّ (لكلِّ هُوِيَّة تصوَّرناها سبباً به وُجِدتْ)؛ وهذا الحُكْمُ بَعْديٌّ لا قَبْلي؛ لأنَّ كلَّ الهُوياتِ التي تصوَّرناها مشهورٌ سببُ وجودِها، ثم صار عَدَمُ العلمِ بالسَّبَبِ قاضياً بأنه لا بُدَّ له من سببٍ لم نعلم به؛ فقانون السَّببيَّة ضرورةٌ وبديهةٌ مُكْتسبة، وَوِجْدانُ عقولِنا يُخْبرنا أنَّ العقلَ غير قادرٍ على تَصَوُّر هُوِيَّة عرفناها بلا سبب أوْجدها.. ولَمَّا اشْتُقَّ من نظرية (المعرفة والعلم البشرية) بباء قبل الشين، وكان من مسائلها قيامُ البراهين على أنَّ الكونَ خلق الله، وأن الخالقَ له الكمالُ المطلق غيرُ القابل الإضافةَ، وأنه مُقَدَّس عن كل نقصٍ لا يقبل سلْباً، وأن ذلك بصفةِ الوحدانيةِ بلاشريك ولا نِدٍّ، وأنه الأوَّلُ بلا بداية، والآخِرُ بلانهاية؛ بمعنى أنه الحيُّ القيوم الباقي الدائم الفعَّال لما يريد، وأن خبر الله على الصِّدق والعصمة: عُلِمَ أنَّ كلَّ سببٍ مشهودٍ أو غيرِ مشهود ينتهي إلى إرادةِ وخلْقِ الخالقِ الواحد تبارك وتعالى، وهذا يُسمُّونه (العِلَّة الكافية، أو السبب النهائي).
قال أبو عبدالرحمن: ومِن الفلسفةِ الماركسية المُضَلِّلَةِ دعواهُمْ القضاءَ على الطبقيَّة؛ ليكون الناس سواسية في الرزق؛ فهذه المحاولة أوَّلاً كاذبة في سلوكهم؛ فالحزب الشيوعي في منتهى الرفاهية؛ فرجل مثل (خروتشوف) مِن أكثر الناعمين بمباهج الحياة.. ولم يرتفع الفقر لسلوكهم الكاذب المبنيِّ على خلاف ما يعتقدونه من جحد الله سبحانه وتعالى؛ فإن استطاع العامل بجهده أن يشبع ويكتسي فذلك هو شِعار (يا عُمَّال العالم اتَّحدوا)، وإن لم يستطع فمنطقهم {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ} «سورة يس /47».. ومن هذا الضلال وُلدت فكرة (البقاء للأصلح أو الأقوى)؛ فلا حرج في قتل المريض المُزمِن في المستشفى؛ لأنه عبءٌ على المجتمع.. ولا حرج في ضرب المجانين أو نفيهم إلى البحر أو قتلهم؛ لأنه لا سعادة لهم إلا بذلك، ولا خلاص للمجتمع وحماية خزينة الدولة إلا بهذا.. وهكذا قتْلُ مُشَوَّهي الحرب أو الحريق.. وبعد هذا كُلِّه فالماركسية والثقلان جميعاً غير قادرين على نفي التناقض الوجودي في سنة الله الكونية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.. وأدنى نموذج أنهم عاجزون عن تسوية العقول والمهارات؛ ليكون العامل الخامِل نديدَ العالِم الماهر في موهبته.. والله جعل هذه السنة الكونية برهاناً جلياً في الآفاق والأنفس، وهو هداية من الله كونية تمنح العقل يقيناً، والقلب طمأنينة.. وأما صراعُ المتناقضات، ونفي النفي في دنيا الأحياء العاقلة: فذلك حقٌّ مِعْياري يُمَيَّزُ به الحق والخير والجمال بالمعادلات في القُدرات التي قد تركن في حين إلى الرضا بأحلى الأمَرَّين.. وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.