د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
وتسيل بنا بطحاء مكة إليها، يشيعُنا الإشراق والتجلّي، حينما حل موسم الحج جذلاً مشتاقاً؛ في بلاد تسمو بالمحتفلين به وله، وتسعد بهداياها للمسلمين في ذلك الرحاب الطاهر، حيث الشمس والدفء، وطيب المآل، وحفي السؤال، والتسابق نحو الفضائل، وعقد الألوية لخدمة الحجيج، واحتواء اللغة والجنس والهوية، والسير نحو محصلة الثواب والجزاء من رب العباد؛ حيث مكة بيت الله الحرام، ومنزل الوحي، ومهد النبوة، ومهوى أفئدة المسلمين،
جعل الله لها من القداسة والوقار ما لم يجعله لبقعة سواها على الأرض، لا يُختلى خلاها، ولا يقتل صيدها، ولا يُعضد شجرها، ولا تلتقط ضالتها، وخصها الله بمزية الذكر والثناء في كتابه {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (سورة آل عمران 96 - 97).
هذه مكة المكرمة في ذاكرة شعوب العالم الإسلامي يستودعونها أمنياتهم حينما يشدون رحالهم إليها، ومنها يرتشفون جرار ماء زمزم المعبأة بالآمال التي ساقها نبي الأمة محمد صلى الله عليه وسلم في قوله «ماء زمزم لما شرب له».
مشاهد تُرى رأي العين، ومواقف يصطفيها الأخيار في بلادنا الغالية؛ بلاد الخير والنماء، تعاضد وتآخي وحفز نحو الإتمام والكمال، ليتوشح القادمون أوسمة الخير ويشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.
إن خدمة حجاج بيت الله؛ حقول استُزرعت في قلوب الوطن وقيادته ومواطنيه، وسُقيت من سلسبيل القناعة بأن احتضان وفود الرحمن شرف يتعالى في آفاق أعمالنا، وينتشر في نفوسنا كشلال ضوء، حتى أصبحت حكايات موسم الخير تتسع لها الأحداق، وتشنّف لها الآذان، وترقّ لها القلوب، وتصيخ لها السماء الدنيا؛ وفي ذلك المحيط الطاهر قذفت إحدى الرافعات نفسها فوق هام المكان وأهله من أدواء في تشغيلها ؛حتى أصبح وجدانها بلا نبض ،فانعدم إحساسها بحرمة الإنسان والمكان فكان أن التهمت أجساد بعض ضيوف الرحمن، ونهشت في بعضها الآخر، فكان استجلاء المشهد سريعا من ملك الحزم خادم الحرمين الشريفين سلمان بن عبد العزيز حفظه الله ولم تعوّم القضية فتضيع بين حقيقة وحقوق ،فدفع حفظه الله الحقوق في عروق المكان، ورصدها بمداد من نور، وأخذت قراراته الرشيدة الحازمة حيّزا واسعا من أحاديث القوم عندما صهر حفظه الله قوانين تحديد المسؤولية فكانت حيّز التنفيذ لا يحيد عنها إلا هالك.
وقبل حزم قراراته حفظه الله كان مصابو الحادث قد تذوقوا حنانه حفظه الله حينما التفت إلى المصابين منهم في المستشفيات، وحادثهم وواساهم ولقد أنتج ذلك الموسم الإسلامي العظيم جموعاً من المتخصصين في النبل والبذل والإيثار، والتضحية، فنالوا بذلك أعلى الأوسمة، وأرفع الشهادات.
حراكٌ نابضٌ في موانئنا تقطر مياهه فوق الرؤوس والأبدان لتؤذن بأجواء صفيقة باردة تتلقفهم قادمين، وتودعهم مغادرين، وتدهشهم وفادةً ورفادة، وتحفر في أعماق الذاكرة لديهم روايات تواري المستحيل وانحساره، إنها تجليات تنطلق وتتأصل في تلك الأجواء الروحانية تتجاذبها مشاعرهم ومشاعرنا؛ لتسقى بماء واحد، ولا تقف عند حدود صناعة أدوات الاستقبال والخدمة؛ إنما تتغلغل إلى ما وراء ذلك من حكمٍ يجلوها تفصيل بعد تفصيل؛ يتصدرها أن هذه البلاد الطاهرة يقودها ملك عظيم، يُشعل روحه ويعمر نفسه؛ إنه خادم الحرمين الشريفين وقد راد الصعب وروّضه، ثم إنها إضاءة المكان المقدس الذي شرُفت به بلادنا وشرُف بها، وكذا هو الامتداد حيث خدمة الحجاج سباق أزليٌ حظي به رواد ذلك الموقع وسكانه منذ عهود مضت وقرون سلفت.
وجميع ذلك حصاد لمعطيات كثيرة؛ كان نجاحها محسوباً لكل من فاق وتفوق في مهمته، وأشعل شمعة في محيطه، واحتفل بخدمة ضيوف الرحمن، وأبرز مظاهر الاندماج معهم، واستطاعت بلادنا أن تكتب بمدادٍ من النور أن أعمق الأعمال هي التي تمتد إلى ما بعد حدوثها أوسمة استحقاق تحملها الأعلام والأقلام، لتُعلن أن بلادنا جديرة بشرف المكان والشعيرة.
بوح إلى الحجيج
يقول أمير الشعراء أحمد شوقي:
إلى عرفات الله يا خير زائر
عليك سلام الله في عرفات
على كل أفق بالحجاز ملائك
تزف تحايا الله والبركاتِ
تسير بأرض أخرجت خير أمة
وتحت سماء الوحي والسوراتِ
إذا حُديت عيس الملوك فإنهم
بعيسك في البيداء خير حُداةِ
لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم
لبيت طهور الساح والعرصاتِ
وأشرق نور تحت كل ثنيّة
وضاع أريج تحت كل حصاةِ
تقبل الله من الحجاج مناسكهم، وأدام بلادنا حانية حامية لضيوف الرحمن، وحفظ الله خادم الحرمين الشريفين موجهاً وداعماً وحفياً بهذه المواسم الخيّرة.