د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
لله در الشاعر البحتري عندما اكتشف بعض معالم القائد، ومقومات القيادة ضمن سياق رائع وردنا من ذلك العصر الذي يخلو من النظريات الإدارية، كما يخلو من المنظرين فيها، والأجمل حين جعل الربيع يتلبّس الفرح بذلك الوجود:
أتاك الربيعُ الطلق يختال ضاحكا
من الحسن حتى كاد أن يتكلّما
تواضع من مجد لهم وتكرّمٍ
وكل عظيم لا يُحبّ التعّظُّما
والحقيقة أن البحتري قد شجعني على الدخول إلى مغامرة المُنظّرين في ذلك المجال الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وهو في واقع الناس حديث كزمجرة الرعد؛ وقليل منه كالأمطار التي تُنبت الكلأ. إضافة إلى أن نبض المجتمعات يحتاج إلى تركيز؛ وفي أقل تقدير مثل الكلمات المتقاطعة؛ ومازال الكرَّ والفرّ على مضمار القيادة في جُلّ المؤسسات له مثار نقع كليل تهاوى كواكبه وإن لم تكتمل الصورة؛ كما أنها ليست تجارب مؤطرة بزمن دون خر؛ أو مكان دون سواه» ففي كل واد بنو سعد».
ولأن «كل إناء بما فيه ينضح» فقد رأيتُ مطاردة تلك الفكرة لعلي آتيكم منها بقبس؛ وسوف أبدأ بإشادة البحتري حين حدد مؤشرات القائد في الخريطة بأنه «لا يحب التعظّما» فأسقط المتكبرين من ذلك السلك، وأخرجهم من نطاقه في ذلك العصر؛ ويبدو أنهم يلتهمون الخريطة في عصرنا والله المستعان!!؟ وأكرر في سياقي أنني أنظر كغيري إلى أن يرث الله الأرض، وقد كان مؤشر البحتري حرياً بتوقف؛ فالقائد المتكبر ذو فكر محدود حتماً؛ فلا يستفيد ممن يحيطون به من ذوي العقول والأفهام والبصر والبصيرة، وذاك يثبط الموظفين المخلصين؛ يقول الفيلسوف warren «لا تصح القيادة إلا بقبول التابعين» والعبارة أراها جديرة بتمعن أيضاً، لكن قد تفشل القيادة من ذلك النمط في الالتفاف على التابعين، واحتواء المضيء منهم بسبب التكبر والعجرفة؛ وعوامل أخرى سوف آتي على بعضها.
وأدلف إلى حركة القائد التي لم يدرجها البحتري على خريطته إلا حين تحدث عن المواجهات والحروب؛ وسوف أنسج سطوري عن حراك القادة في بعض المؤسسات وخاصة الخدمية منها، وحيث إنّ لكل مؤسسة قانونها وثقافتها ورؤاها وأهدافها؛ فقد كانت الجدران أمامي مركّبة؛ فلعلِّي أخاتل بعض صمتها؛ فعندما يكون القادة لا يتحركون نحو أهداف المؤسسة؛ فنحن أمام نمطين؛ إما قائد مغرم بالأغلفة والعناوين.
فحين يفقد القدرة على الغوص للأعماق فإنه يلقي لوم الفشل على أدوات الصيد، أو قائد أعمى يتحسس النتوءات، ولا يناقش الأفكار بل يهاجم أصحابها، وأشد ما يقضّ مضجع ذلك القائد الأفكار الجديدة، فيسعى لحرمان المرؤوسين من المعرفة, وخاصة ذوي الإنجاز منهم، كما ينظر لهم بعين الريبة فينشر الخوف من سطوته بين المرؤوسين, وبذلك يشتت طاقاتهم ويصرفهم عن تحسين الواقع أو مجرد التفكير فيه.
يقول الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان للحجاج:
عندما كتب له يشتكي أهل العراق «إن من قوة السائس أن يتآلف المختلفون, ومن ضعفه أن يختلف المتآلفون».. وحتى نكون منصفين في حديثنا عن الرؤوس؛ لابد أولاً من مراعاة الفوارق بين العقول التي تحتل مساحة من تلك الرؤوس تماماً كما يُراعى فارق التوقيت تماماً بين البلدان عند أداء الفرائض؛ كما أن من المقاييس الحاكمة لذلك قدرة القائد على اختيار الحيّز الذي سوف يشغله ويقوده؛ ففاقد الشيء لا يعطيه؛ فذاك في حد ذاته جدول آخر لحفز المنابع، وإثراء المصبات؛ ومما يترتب عليه القياس أيضاً التخصص المعرفي في القنوات الفرعية للمؤسسة؛ وإلا لماذا التعليم الأكاديمي والأطروحات التخصصية، والتدريب على ممارسة التخصص في الواقع؛ لأن المعرفة حينئذ هي المفتاح لاستقبال أفكار المرؤوسين ودعمها ثم فرضها؛ وهنا تتحقق القدرة على التحول في المؤسسة, وترسية قواعد العمل المؤسسي. فالتحول يتم من خلال الإستراتيجيات، وليس من خلال إطلاق القرارات الإدارية، ولابد من الإيمان بأن إصلاح قلب المؤسسة أولى من علاج أطرافها لأن خواء القلب مميت.. ولأن الحصاد مرجعه إلى العمل وليس إلى الحقل؛ وكثير من القادة يتحركون ومناطيدهم محلقة في عالم النظريات، وغالباً هذا النمط تحتدم عنده الخطوط الحمراء وتصبح جبالاً وودياناً؛ ويتعسّكر الوعي أيضاً، ويأبى الإطلالة على أي نافذة للتغيير استجابة من أولئك القادة للقوانين التي يلتقطونها خارج إطار مؤسساتهم، وقد صدق المتنبي حينما قال:
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائمُ
وفي نظري المتواضع أن تلك الأجواء المحتدمة بمن كبُر مكانه، وقصر بَنَانُه، وتوجس وجدانه، سرعان ما تطيش سهامهُ، وتصبح كعلامات الاستفهام والتعجب التي عادة لا تجد لها جواباً في سياق الطروحات، وبالتحديد النهايات المفتوحة فكل يكمل اللازم كما يحلو له وفق مقولة الوزير القائد غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه حياة في الإدارة «عبارة إكمال اللازم أي افعلوا ما شئتم».
فالقادة الذين يخالطون الميدان، ويخاطبونه بلغته, حتماً يزرعون الثقة عند العامة والخاصة في مقدرة القائد على إنزال الرؤى من السماء إلى الأرض بالفكر النير ومساندة المخلصين دون مناطيد.
وفي موقع آخر على خريطة القيادة؛ لم يعبره ربيع البحتري وهي دوائر المرؤوسين، ولقد تجنبتُ حدائق الشاعر وربيعه الذي زينه ليستقبل المتوكل، ورأيتُ تنصيب شياطين كشياطين الشعراء ليعينوني على اختراق ذلك الموقع في تلك الخريطة، فوفق ما يروى عن شياطين الشعر التي كانت تلازم الشعراء في وادي عبقر في نجد؛ وكانت الجن تعزف لها سيمفونيات ليحضر الإلهام للشاعر، وتغمد الجن معازفها حين نضوب القرائح، ولكن شيطان القائد في مؤسسته له مهام أخرى؛ فهناك شيطان السطوة وشيطان الاستئثار بالمنافع وشيطان الوهم، وشيطان تدجين البشر وياله من شيطان مارد حيث يردد أمام القائد قول ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها
ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقول المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
وفي ذلك الدرب من الخريطة قال علماء مبرزون في علم الإدارة قبل طرحي المتواضع «أن أصحاب الكفاءة المتواضعة من قادة المؤسسات يستقطبون للعمل معهم من هم أقل منهم مهارة كيما يظهروا بمظهر حسن ولا ينكشف جهلهم «وأحسب أن ذوي الفكر والمهارة الذين يكثرون من رصد الثقوب في المؤسسة هم الأنفع على المدى البعيد للمؤسسة وللقادة أنفسهم.
وهكذا فإن أفق القيادة في المؤسسات أفق يغوي بالتوغل إلا من رحم ربي؛ ورفع مستوى خطاب المسؤولية دائماً ما تقابله رياح محذرة بحكايات تساقطت من هنا وهناك حتى أصبحت في بعض المؤسسات -ولن أعمم- شجرة عجفاء لا يستظل بها أحد، وإن سلمنا بحتمية التدوير والتغيير إيماناً بأن توجيه خطأ القرار له نتيجة أفضل من صوابه لأنه يأتي بعد تجريب، وكما يُقال التجربة خير برهان، إلا أن شيطان الوهم أصبح يتلبّس الضعفاء من القادة لأنهم استمرأوا الكراسي؛ ولعقوا العسل من خلايا النحل، والله سبحانه وتعالى انطلق في تحديد معايير القيادة بالقوة ثم الأمانة قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (26) سورة القصص.. إلا أن شيطان الوهم وهو من وجهة نظري المتواضعة من أشد أنواع الشياطين فتكاً حيث يعاني أصحابه من أوهام التفوق والقوة ويقيّمون قدراتهم وفق حساب المدة التي اتكأوا فيها على تلك الكراسي، وإن كانوا لم يحركوا ساكناً فإنه أيضاً لم يحركهم ساكن، وهذا من أقوى مؤشراتهم على التمرحل الوهميّ.
وأختم رؤيتي في القيادة بأن في خريطة القادة إشارات وعلامات، تجعل الدروب أكثر ثراء وخصوبة، وتمهد للخطوات الناجحة في البناء المؤسسي بإصرار واستبسال فلابد من القضاء على الوهم الذي يلازم ضعاف القادة في بعض المؤسسات؛ ومواجهة الممارسات الخاطئة لتنكشف الحقيقة، وإلا فسوف تظل المؤسسات مشغولة بسطح القشرة فقط التي ترسم مصطلح القائد وتكتب فيه النظريات والأطروحات كما عبأتُ أنا سطور هذا المقال -عفا الله عني-.
إن عزّ في هذا الربيع لقاءنا
سنعيش ننتظر الربيع الثاني
وذاك ربيع فاروق جويدة وليس ربيع البحتري الذي الهمني كتابة هذا المقال..