د. عبد الله المعيلي
كل إنسان مهما كانت حالته المزاجية، سوداوية أو غارقة في الكراهية، يبقى هناك أمر واحد لا يمكن أن يكرهه، ألا وهو حب كل ما لذ طعمه وطاب مذاقه؛ لهذا تعد المأكولات الحلوة خارج هذه الحالة المزاجية، على اعتبار أن الأشياء الحلوة محببة للنفس؛ فالعسل محبب للنفس، بل تتمنى النفس المزيد منه دائماً. ولا يخفى أن العسل أنواع، إما مادي يتجسد للناظر لوناً وشكلاً، أو معنوي يبهج النفس تخيلاً وتصوراً. ولكل صنف أنواعه وأشكاله، وكلها محببة للنفس، مطلوبة مرغوبة.. ولا غرابة في ذلك.
لهذا طبعي أن تندفع النفس إلى الاستمتاع بالعسل؛ لأن خصائصه تستهوي النفس، والنفس البشرية مجبولة على الشراهة والمبالغة في الاستمتاع بكل ما يعد لذيذاً محبباً، لدرجة أن البعض يتجاوز حدود اللباقة والمنطق في الاستحواذ والاستئثار به متذرعاً بمسوغ الرغبة في المزيد من التلذذ والإشباع طالما أن الظروف تسمح بذلك، سواء من حيث تهيؤ الفرص أو من حيث محددات المنع والصد.
يتسم الذي يبالغ في استمراء التلذذ بالأشياء الحلوة والاستئثار بها، بينما الآخرون من حوله ينظرون إلى موائده دون أن يتذوقوها، يتسم بالاستعلاء والأنانية، وعدم المبالاة بتحذير الذين يخشون عليه من تبعات الإفراط في أكل «الحلا». ليس هذا فحسب، بل تجده يعد الذين ينظرون إليه وهو يلتهم «الحلا» مجرد «مشافيح»؛ وبالتالي عليهم الاكتفاء فقط برؤيته وهو يأكل ويلتهم «الحلا»، وألا ينبسوا ببنت شفة عما يرون مما لذ وطاب من أنواع موائد «الحلا» التي طالما سال لها اللعاب. وأمام هذا الحرمان يكتفي المبعَدون بالرؤية دون الملامسة التي تعد في حكم المحرم عليهم؛ لأنهم لا يستحقون المشاركة في الاستمتاع أو حتى ببيان أي أنواع «الحلا» أشهى طعماً، وأطيب مذاقاً.
ترتب على هذه الحالة من الحرمان والإقصاء، التي تعد حالة نشاز خارج إطار المعقول، مقارنة بما هو سائد ومتعارف عليه؛ إذ يؤخذ في الحسبان في أقل الأحوال السماح بالتمكين من التذوق ولو بالحدود الدنيا.. ترتب على هذا الفحش في الحرمان والإقصاء والاستئثار من طرف واحد وضع في منتهى الغرابة والتفرد، سواء في المظهر أو المخبر، تمثل في حالتين:
الحالة الأولى: تخص المستأثر؛ إذ بدت حالته مكتنزة متخمة مشوهة، تدعو للشفقة والتعجب؛ فهو من فرط تناول «الحلا» ترهل جسمه وتشوه، وغدا هدفاً للتندر والاستهزاء والازدراء والسخط من المحرومين المبعدين. ومما ضاعف الألم أن جهود المحبين المتمثلة في النصح المتكرر للمستأثر بأن يكتفي بما تحقق له من أوجه الاستئثار التي بلغت به حد التخمة ذهبت أدراج الرياح، ولم يفلح التذكير بإعطاء المحرومين بعضاً مما هو زائد عن الحاجة، بل يفوقها بمراحل حتى بدت نتوءات شوهت المظهر، وكشفت عن مخابر، ويبدو أنه في غفلة عما هو آت من اضطراب الحال، وسوء المآل، إن استمر المستأثر على هذا المنوال من تجاهل النصح والتذكير.
الحالة الثانية تخص المحروم؛ إذ بدا يائساً من التغيير، خائفاً من صور التردي والتعدي والتحدي ومن المصير المجهول، متردداً في استمرار تقديم النصح والتذكير الذي طالما تقدم به للمستأثر وبصور مختلفة، لكن لم تلق آذاناً صاغية، وعقولاً يقظة. وعلى الرغم من أنه لا حياة لمن تنادي، ومع أن هذه الحال غير مطمئنة، إلا أنه لم يفقد الأمل بعد، فما زال في الوقت متسع لإعلاء صوت النصح، وترديد عبارات التذكير، فهما المدخل الصحيح لإزالة مظاهر الترهل التي صاحبت حالة الاستئثار بالتلذذ بأنواع «الحلا» التي زادت سعراتها الحرارية من حالة تشوه الصورة البهية لحالة المستأثر.
فيا أيها المستأثر الذي أصاب بصيرته غشاوة الاستمتاع بما لذ وطاب، ترى الأول ما ترك للتالي شيئاً.. يقول الأول: إن كان صاحبك حلواً لا تأكله كله؛ لأنك إن أكلته كله، وظللت على الاستئثار بأكل «الحلا»، فإن ذلك سوف يؤدي حتماً إلى إصابتك بالعديد من الأمراض التي عواقبها وخيمة، ويكفي أنها عندما تقع الفأس في الرأس تستعصي بكل تأكيد على العلاج، عندئذ لا ينفع الندم على الإفراط بالاستئثار وتجاهل نصح الناصحين.