د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
لم يقنع النابغة الذبياني بما قدَّمه من حروف اعتذارية للنعمان بن المنذر في المشهد الأول، ولم تنفد ألوان ريشته في رسم لوحته التي تشي بكل أنواع الأسف والبيان ودفع التهمة والكشف عن تفاصيل القضية؛ لأنه يعرف عظم الجرم المتهم فيه ويعي مكانة المعتذر منه المجني عليه، يقول في المشهد الثاني :
فلا تترُكَنِّي بالوعيد كأنني
إلى الناس مَطليٌّ به القار ُأجربُ
ألم ترَ أن الله أعطاكَ سُورةً
ترى كُلَّ مَلْكٍ دونها يتذبذبُ
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ
إذا طلعت لم يبدُ منهنَّ كَوكَبُ
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ
على شَعَثٍ، أي الرجالِ المهَذَّبُ
فإن أكُ مظلوماً فعبدٌ ظلمتَهُ
وإن أكُ ذَا عُتبى فمِثلُكَ يُعتِبُ
إذن هذا هو المشهد الثاني من النص الجاهلي المتألق الذي صاغه لنا شاعرنا العربي المتميز النابغةُ الذبياني، الذي نظم هذه الأحرفَ بقلبٍ مليءٍ بالحبِّ والخوف من تلك الأنباء التي وصلته زاعمةً أنه قد هجا ملك المناذرة : النعمانَ بنَ المنذر، وهو هنا ليفنِّدَ هذه الأكاذيب، ويكشفَ الحقيقة، ويضعَ الأمور في نصابها.
يستكمل النابغة في هذا المشهد اعتذاره الذي كان قد بدأه في المشهد السابق، حيث يطلب من هذا الملك العظيم أن يعطيه الأمان، ويرجو منه ألا يتركه فرداً وحيدا، وفي محاولةٍ من الشاعر لتقريب الصورة، وتوضيح المآل الذي آل إليه، وحجم الضرر الذي أصابه، نراه يشبه حاله التي صار إليها بعد هذا التهديد والوعيد الذي قد وصله من النعمان بحال ذلك الجمل الأجرب الذي يُطلى بالقار، والبعير الذي يُدهن بالقطران؛ لكي تتجنَّبه بقية الإبل وتبتعد عنه؛ كي لا يصيبها ما أصابه من هذا المرض المعدي، وفي هذا التشبيه الرائع كشفٌ للحالة المأساوية التي آل إليها الشاعر، وبيانٌ لحجم المصيبة التي وقعت عليه والأضرار التي حلَّت به جرَّاء هذه الأنباء التي انتشرت بين القبائل انتشار النار في الهشيم، ولا أساس لها من الصحة.
كما أنَّ في هذا التصوير مدحاً للنعمان، وثناءً عليه، وإيضاحاً لمكانته بين الناس ومحبتهم له، فالرجل الذي يُترك من قبل الناس ويُنبذ ويُتجنَّب، لا شكَّ أنَّ سبب ذلك افتراضُ قيامِهِ بعملٍ في منتهى القبح وغاية السوء، وإذا كان هذا العمل هو هجاء النعمان وكان موقف الناس من فاعله بهذا الشكل، فلا شكَّ أنَّ المكانةَ التي يحتلها المهجوُّ مرتفعة، والمحبةَ التي ينالها منهم عظيمة.
وفي انتقالٍ رائعٍ يبدأ الشاعر في ذكر مناقب هذا الملك العظيم، ويضفي عليه صفات المدح والثناء، وذلك عن طريق عقد مقارنةٍ بينه وبين بقية الملوك، في بيتين من أشهر أبيات المدح في الشعر العربي، أما الأول فقد بدأه النابغة باستفهامٍ يقرِّر فيه المنزلة الرفيعة التي وهبها الله لهذا الممدوح، والمرتبة العالية التي أعطاها له، حتى إن الملوك الآخرين يتذبذبون حولها مجهدين أنفسهم في الوصول إليها، ومحاولين بشتى الطرق الحصول عليها، لكنهم عجزوا ولم يستطيعوا؛ لأنَّ الله اختصَّه بهذه المنزلة عن بقية الملوك فلن تجدي محاولاتهم نفعاً.
أما البيت الثاني فيؤكد فيه النابغة هذا المعنى، ولكن عن طريق أسلوب التشبيه البليغ الذي تألق في صياغته شاعرنا المتميز، فأنت أيها الملك العظيم مثل الشمس، بل أنت هي نفسها، وبقية الملوك كالكواكب الأخرى التي في السماء، ويزيد النابغة في جمال هذا التشبيه عن طريق إضافة الشطر الثاني من البيت الذي يتضمَّن وجه الشبه وغرض الصورة، وهو الظهور والخفاء، والاشتهار والاندثار، فالشمس إذا بزغت في السماء اختفت بحضرتها الكواكب جميعها، وإذا ظهرت تلاشى كلُّ شيءٍ في السماء، وبقيت وحدها ساطعةً لامعة، وهذا الملك الممدوح مثل تلك الشمس، إذا ظهر وحضر غاب جميع الملوك بِحضرته، فأصبح هو المشار إليه، والمعوَّل عليه.
ثم يأتي البيت قبل الأخير من هذا المشهد حاملاً معه حكمةً رائعةً تنمُّ عن صدق الخبرة وعمق التجربة، حتى عُدَّ هذا البيت من شوارد الشعر، وهو الذي يقول فيه :
ولستَ بمستبقٍ أخاً لا تَلُمُّهُ
على شَعَثٍ، أي الرجالِ المهَذَّبُ
إنَّ المرء الذي يعيش في هذه الدنيا لا يستطيع الحفاظ على أصحابه كلهم، وليس بمقدوره استبقاءهم جميعا، إلا في حالةٍ واحدة، هي أن يكون صدره واسعاً لأخطائهم، متحمِّلاً لزلاتهم، متغاضياً عن ذنوبهم، وهل هناك رجلٌ كاملٌ لا يخطئ؟ وهل يوجد أمرؤٌ ترضى سجاياه كلها وتقبل صفاته جميعها؟ إنَّ هذا أمر مستحيل، لذا فحتى لو كنتُ مخطئاً، وحتى لو افترضنا أنني أذنبتُ في حقِّك فأنا بشر، أصيب وأخطئ، ولا أرجو سوى عفوك وصفحك.
ويختم النابغة هذا النص الاعتذاري المتميز ببيتٍ ختاميٍّ رائع، يلخِّص فيه طلبه، ويختصر فيه حاجته، وذلك عن طريف الافتراض والتقسيم المنطقي والإقناع العقلي : فإذا افترضنا أنَّ هذه الأنباء التي وصلتك أيها الملك كاذبة، وكنتُ حينها مظلوماً لا ذنب لي فيما حصل، فأنت سيدي، وأنا عبدك، وما على السيد إذا ظلم عبده؟ وإن كانت الأخبار صحيحة وكنتُ حينها ظالماً مذنباً استحقُّ العتاب والعقاب فأنت جديرٌ بالعفو وأهلٌ للمغفرة، وأنا طامعٌ في مسامحتك وصفحك وكرمك، وفي هذا تصريحٌ من الشاعر بأنه راضٍ بجميع ما يصدر عن هذا الممدوح، ومُسلِّمٌ أمره له، ومُطيعٌ لأوامره جميعِها.
***
هذا هو النابغة الذبياني.. وهذا هو نصه الاعتذاري الشهير الذي ألقاه أمام ملك المناذرة النعمان، قد حشد فيه كل أساليبه الفنية ومقدراته اللغوية لإخراجه، فأبدع وأمتع، ولعلي فيما بقي أسعى إلى الكشف عن أبرز خصائص تميزه وأهم أسرار خلوده :
1 - الألفاظ السهلة العذبة على الرغم من أنَّ شاعرها جاهلي، لكنَّ هذا أمر طبعيٌّ إذا عرفنا أنه يُعدُّ حضرياً لكثرة ما عاش في بلاط الملوك، وما عُرف عنه من كثرة تنقيحه لشعره، وإعادة النظر فيه، حتى عُدَّ من عبيد الشعر.
2 - التنوع الأسلوبي الذي صاغ به هذا الاعتذار الرائع، فمن أسلوب خبريٍّ إلى إنشائي، ومن استفهامٍ تقريريٍّ إلى نهيٍ مقصودٍ به الرجاء والدعاء.
3 - التشبيهات الرائعة والتصويرات المتميزة التي استثمرها النابغة في بناء هذا النص، كتشبيهه همَّه وألمه بآلام الأشواك الموضوعة في الفراش تحت الجسد، وتشبيهه نفسه بالبعير الأجرب، وتشبيه الممدوح بالشمس وغيره بالكواكب.
4 - اللغة الرقيقة والأسلوب اللطيف الذي يتناسب مع غرض الاعتذار، ويتسق مع مقصود الشاعر من إنشاء هذا النص المتألق.
5 - الحكم الرائعة المتناثرة في النص، تلك التي تدل على عمق تجربة الشاعر وصدق عاطفته.
6 - محاولته الجاهدة في إقناع الممدوح بكذب الأنباء التي وصلته والأخبار التي تقول بأنه قد هجاه، سواء عن طريق مدحه وتبيين فضله، أو عن طريق التقسيم العقلي والإقناع المنطقي، أو عن طريق أساليب التأكيد كأسلوب القسم.
***
لقد صدق النقاد حين قالوا : النابغة أشعر الشعراء إذا رهب.. ونصه المتميز هذا دليل على صدق هذه العبارة.. وصحة ذلك الحكم.. وما رضى الشعراء عنه حين جعلوه حكماً بينهم في سوق عكاظ وقاضياً لهم إلا دليل على أنَّ هذا الشاعر العظيم قد بلغ أعلى مراتبِ الشاعرية.. وأرفعَ درجاتِ الإبداع..