محمد جبر الحربي
ننسى في زحامِ الثقافةِ الاستهلاكيةِ السريعة، وهيمنةِ التقنية والوسائط الاجتماعية السائدة، التي تفضح ضعف تعليمنا هويتنا وذواتنا، حتى أصبحنا نفرح لرؤية «تغريدةٍ» لمْ تشتكِ منها أركانُ اللغةِ، فلا قواعدَ ولا إملاء، ولا بيان، ولا أدب، ولا خلق.. وها هم يتسابقون أمامنا على الجهل وبالجهل وفي الجهل والغَيِّ حتى نسي الناس عظَمة لغتنا وبياننا، وعظَمة شعرنا وذائقتنا العربية، فصرنا أعاجمَ في قلب العروبة والعرب.
ولكن ألم نكن نردد أنّ كلّ ذلك حتميّ إن طغى على المشهد من لا يحسنون فهم التراث ولا فهم الحديث، ويكثر من يفتون وينظرون وهم لا يعلمون؟!
ألم نؤكد على دور التعليم الحقيقي لا تعليم الشهادات، والإعلام؟
ها قد اختفى حبُّ ذاك القديم وهذا الجديد، فلا هم هناك ولا هم هنا.. معنا!
لذا فكرت أنْ أترك بينكم ذاكرةً وتذكيراً بالجمال العربيّ.. علّ أرواحنا تنتصرُ على تطرّف القبح والكراهية والاستعجال لنبنيَ على قواعدِ الخير والجمال وما هو من جيناتنا ودمنا ولغتنا ودفئنا، وعلى ما يرسم ملامحنا لا ملامحَ ما نترجمه أيضا على عجلٍ، ونعيد بثّه على ضعفٍ وخجل.
ومن المهم هنا أنْ نفهمَ أنّ الأوربيين الذين نأخذ عنهم، ولا بأس في ذلك، لم ينسوا أبداً إرثهم الإغريقي في إلياذته وأوديسته وعلومه وفلسفته، ولا تاريخهم وبطولاتهم وانكساراتهم، ولا أمجاد روما والمتوسط، فنحن نلحظ كل ذلك الجمال في علومهم الحديثة، وفي نتاجهم الأدبي والفني، متجليا في نيويورك ولندن وباريس وبقية الاتساع المعرفي الأوروبي شرقاً وغرباً، في مسرحهم، وعبر موسيقاهم بدءاً بسيمفونياتهم إلى آخر صرعات الجنون الحديث، ومن شعرهم حتى تصاميمهم ومعمارهم الذي ينطق شعراً وثقافةً وجمالاً.
نحن فقط الذين نشعر بثقل التراث بسبب ضعفٍ فينا لا فيه، وأعني منا، ممن لا نرى في حداثتهم قيمةً وامتداداً وأفقاً، وأعني بالتأكيد هنا من أرادوا الانقطاع ولم يستأنفوا أبداً..
أما الدافع الذي يسبق هذا فهو الحب، تأملوا خطاب الحب فيما يلي، وأجيبوني أين اختفى هذا الجمال من حضارتنا اليوم، إنْ كان ثمّ حضارة، وحلّ محله القتل والهدم والكره والبغضاء:
هل تعلمين وراءَ الحب منزِلَةً
تدني إليك.. فإنّ الحبَّ أقصاني؟
يا رِئْمُ قولي لمثلِ الرِّئم قد هجرَتْ
يقظَى فما بالُها في النوم تغشاني
- بشار بن برد
منكَ الصّدودُ ومني بالصّدودِ رِضى
مَن ذا علَيَّ بهذا في هواكَ قَضَى؟!
- أبو العلاء العري
وعذَلتُ أهلَ العِشْقِ حتى ذُقْتُهُ
فعجبتُ كيفَ يموتُ من لا يعشَقُ
وعذرتُهمْ، وعرَفتُ ذنْبي أنني
عيّرْتُهُمْ.. فلَقيتُ منهُ ما لَقُوا!
- أبو الطيب المتنبي
كلانا ناظرٌ قمراً ولكنْ
رأيتُ بعينِها ورأتْ بعيني!
- القاضي عياض
فلو كنتِ ماءً كنتِ ماءَ غمامةٍ
ولو كنتِ درّاً.. كنتِ من درّةٍ بكرِ
ولوْ كنتِ لهواً كنتِ تعليلَ ساعةٍ
ولو كنت نوماً كنتِ إغفاءةَ الفجرِ
- تنسب لأعرابي
وقد زعموا أنّ المحبَّ إذا دنا
يملُّ.. وأنَّ البعدَ يشفي من الوجدِ
بكلٍّ تداوينا.. فلمْ يُشفَ ما بِنا
على أنّ قربَ الدارِ خيرٌ من البعدِ!
- ابن الدمينة
قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى
وقلّ لنجدٍ عندنا أنْ يُودّعا
وليست عشياتُ الحمى برواجعٍ
عليك ولكنْ خلّ عينيك تدمعا
* *
حيّ المنازلَ.. إذْ لا نبتغي بدَلاً
بالدارِ داراً ولا الجيران جيرانا
لا باركَ الله في الدنيا إذا انقطعتْ
أسبابُ دنياكِ من أسبابِ دنيانا
- جرير
وأمطَرَتْ لؤلؤاً من نرْجِسٍ وسَقَتْ
ورداً، وعَضَّتْ علَى العُنّابِ بالبَرَدِ!
- يزيد بن معاوية
قالَت قَعدتَ فلم تنظُرْ فقلتُ لها
شَغَلتِ قلبي فلمْ أقدرْ على النظرِ
ما ضرّ أهلكِ ألّا ينظرُوا أبداً
ما دُمتِ فيِهِمْ إلى شمسٍ ولا قَمرِ
- أبو الفضل بن الأحنف
تقولين ما في الناسِ مثلُكَ عاشِقٌ
جِدِي مثلَ منْ أحببْتُهُ تجِدِي مثلي
- المتنبي
للهِ أشواقي إذا نَزَحَتْ
دارٌ بنا.. ونأى بكمْ بُعدُ
إنْ تُتُهمي فتهامةٌ وطني
أوْ تُنجِدي يكن الهوى نجدُ
- الحسين بن محمد المنبجي
رَبيبَة ُ خِدْرٍ يجرَحُ اللّحظُ خدَّها
فوَجنَتُها تَدمَى وألحاظُها تُدْمِي!
- صفيّ الدين
وأشْرَفُ النّاسِ أهْلُ الحُبِّ منزِلَةً
وَأشرَفُ الحُبِّ مَا عَفّتْ سَرَائِرُهُ
- أبو فراس
جَزَى الله عَنّي الحُبَّ خَيراً فإنّهُ
بهِ ازدادَ مجدي في الأنامِ وعليائي
- بهاءُ الدين زهير
ما عالجَ الناسَ مثلُ الحبِّ من سقَمٍ
ولا برى مثلهُ عظماً ولا جسَدا
ما يلبثُ الحبُّ أنْ تبدو شواهدهُ
من المحبِّ.. وإن لم يُبدِهِ أبدا!
- الأحوص ا لأنصاري
بكتْ لؤلؤاً رطباً ففاضَتْ مدامعي
عقيقاً فصارَ الكلُّ في نحرِها عقـدَا
- التنوخي
وأَبتغي عندكم قلباً سَمَحْتُ بهِ
وكيف يَرْجِعُ شيءٌ وهو موهوبُ!
- مهيار الديلمي
إِذا تَقُومُ يَضُوعُ المسْكُ أصْوِرَةً
وَالزَّنْبَقُ الوَردُ مِنْ أَرْدَانِها شَمِلُ
- الأعشى
لَئِنْ كنتُ أخليتُ المكانَ الذي أرى
فهيهاتَ أنْ يخلو مكانُكَ من قلبي
وكنتُ أظنُّ الشوقَ للبعدِ وحدهُ
ولم أدرِ أنّ الشوقَ للبعدِ والقربِ
- الشريفُ الرضي
رماني كالعدوِّ يريدُ قتلي
فغالطني، وقالَ: أنا الحبيبُ!
وقالوا لِمْ أطعتَ، وكيف أعصي
أميراً من رعيّتهِ القلوبُ؟!
- الشريفُ الرضي