الوصول المتأخّر! ">
جمعان هو أصغر أفراد الأُسرة المكوّنة من الأم وثلاثة أولاد وبنتين، وُلد يتيم الأب، وهذه النّقطة شكّلت مُعظم مكوّنات شخصيّته وتفاصيل حياته، كان طفلا قويّ الملاحظة، لكن الأهم والأخطر أنّه كان شديد الحساسيّة، يُفسّر كل كلمة ويُحلّل كلّ موقف.
كانت أوّل ملاحظة التقطها عقله الصّغير أنّه ليس له أب كأقرانه الّذين يلعب معهم، وكان يطرح أسئلته على أُمّه لماذا أنا بدون أب مثل مفرّح، فتقول له الأم: لقد مات أبوك رحمه الله، ثم كانت الملاحظة الثّانية الّتي التقطها تفكيره وهو في الثاّمنة من عمره أن بيتهم أقل من بيوت الأقارب والجيران المحيطة بهم.
فقد كان جمعان وأسرته يسكنون في (عشّة) وهي بناء من الخشب والحشائش، وكان سؤال جمعان (الدّائم) لأمّه لماذا لا تكون لنا (غُرفة) كالأقارب والجيران؟ فترد أمّه (دائما) بأنّهم سيبنون الغُرفة قريباً! كان جمعان يشعر بالفرق بينه وبين أقرانه حتّى وهو على مقاعد الدّراسة، في الملابس، والمصروف، ونوع الدفاتر والأدوات وغيرها.
وعندما بلغ جمعان الثّانية عشر من عمره وهو في الصّف السادس ابتدائي، تمكّنت أسرته من تحقيق حلمه ببناء (غُرفة)، فانتشى جمعان فرحا وجاء بأصدقائه كلهم ليُريهم الغرفة، وكان لجمعان كبقيّة أقرانه (حمارا) يذهب عليه لقضاء احتياجات أهله مثل إحضار المياه ونقل (القصب والعلف) من المزارع، أو إحضار بعض الأغراض من البقالة الوحيدة بالقرية، وكثيرا ما جرت سباقات بين جمعان وأصحابه في السّرعة على الحمير، وكان حماره يعادل سيّارة في نظره، ويهتم به اهتماما كبيرا، لكن مفرّح وجابر وصالح اشتروا وسيلة جميلة وجديدة وهي عبارة عن (سيكل) يسير على كفرين، وأصبحوا مع الوقت يرافقونه على (سياكلهم) إلى البقالة وهو على (حماره)! فيشعر بالحرج! وينطلق جمعان إلى أمّه باكيا وطالبا منها شراء (سيكل) له كأقرانه، ومهدّدا بأنّه إن لم يحصل على طلبه سيتوقّف عن القيام بأيّ عمل في البيت!
وكعادتها المسكينة وعدته بتوفير ذلك قريباً إن شاء الله تعالى، المقارنة تُعذّب جمعان، يشعر أن هناك فروقا كثيرة بينه وبين أقرانه، ويبحث متسائلا عن السّبب؟ هل هو اليتم؟ هل هو الفقر ؟ وحينما بلغ جمعان السّادسة عشر من عمره، حصل على حلمه (السّيكل) حيث كان هديّة انتقاله إلى المرحلة الثّانويّة، وفرح به فرحاً كبيراً، وكان يلعب عليه اللّيل والنّهار من شدّة فرحه.
لكن من جانب آخر كان على أسرته البحث عن سيارة تنقله للمدرسة الثّانويّة البعيدة عن القرية، وبدأ البحث عن طريق أمّه وإخوانه الأكبر منه، وفرحت الأم كثيرا حين أخبرتها جارتها أم جابر بأن أبو جابر سيشتري لجابر سيّارة ليداوم بها إلى المرحلة الثّانويّة، ولكنّها قلّبت الأمر في عقلها ووجدت أن إخبار جمعان بهذا الخبر سيحزنه ولن يُفرحه، لأنّه سينظر له من جانب آخر تماما، وهو حصول جابر على سيارة، في وقت حصوله على سيكل! وعرف جمعان بالأمر وحزن حزنا شديدا، وقال لنفسه لقد كُتب عليّ دائما (الوصول المتأخر)!
بعد عدّة أشهر أحضر أبو صالح عمّالا وأخشابا وحديدا وبدأ الجميع العمل، وأخبره صديقه صالح بأن والده سيبني (عمارة)! فابتسم جمعان بحزن وقال إنّها إذا معادلة الوصول المتأخّر (عشّة مقابل غُرفة، وغُرفة مقابل عمارة وحمار مقابل سيكل، وسيكل مقابل سيّارة) لا أمل أن نكون كالآخرين !لا أمل أن نصل معهم! وحينما تخرّج جمعان من الثّانويّة وانتقل إلى المرحلة الجامعيّة انتقل إلى مدينة أخرى، وسكن في السّكن المخصّص للطّلاّب.
كان يذهب ويجيء من الجامعة في الباص التّابع للجامعة، بينما أقرانه مفرّح وجابر وصالح سكنوا في شُقّة بالإيجار بحجّة أن السّكن الجامعي كل شيء فيه ممنوع، حتّى التّلفزيون! وكانوا يتنقّلون في سيّاراتهم الخاصّة، لكنّهم كانوا لا يتركون جمعان أبدا فيمرّون عليه بشكل يومي للجلوس معا والخروج معا، فعلاقتهم كانت علاقة أُخوّة عميقة وعشرة عُمر رغم الفوارق الاجتماعيّة، بل إن هذه الفوارق لم تكن موجودة إلاّ في عقل جمعان ربّما بسبب اليُتم.
وحينما تخرّج الجميع في الجامعة وتعيّن جمعان معلّما واستلم أوّل راتب مرّ بطقوس عجيبة فقد ارتعشت يداه، وخفق قلبه كثيرا، وهرب بعيدا عن العيون ليُطلق العنان لدمعات فرح وحزن فرّت من عينيه وهو يتساءل: هل هذه الورقات هي الحل السّحري للوصول المُبكّر! هل سأصل منذ الآن مع النّاس؟ وانطلق يُرتّب أولويّاته.
كانت السّيّارة هي الخطوة الأولى والأهم، لكنّه لم يستعجل فقد قضى السّنة الأولى كاملة بدون سيّارة رغم المعاناة، لأن تفكيره كان بعيد المدى فقد كان يُريد سيّارة جيّدة تدوم معه أطول فترة ممكنة، وهو ما حدث فعلا فقد اشترى سيّارة دامت معه عشرين عاماً. وهو ما كان محل تندر زملاؤه وأصدقاؤه عليه، خاصّة مع تجدّد موديلات السيّارات وزيادة اكسسوارات التّرف فيها، لكنّ قناعته كانت أن السيّارة وسيلة نقل، لا وسيلة فخر، لقد تعلّم جمعان كثيرا من رحلة (الوصول المتأخّر) الّتي مرّ بها في حياته، تعلّم التّريّث والهدوء وعدم الاستعجال، وحينما ظهرت خدمة الهاتف (الجوّال).
كان جمعان من أواخر من اشتركوا فيها، عكس معظم زملائه وأصدقائه الذي تسابقوا للاشتراك فيها عند ظهورها وبمبالغ باهظة على سبيل التفاخر، لقد تعوّد جمعان على الوصول المتأخّر، حتّى وهو يمتلك القدرة على الوصول المُبكّر!!
أحمد حسين الأعجم - جازان