محمد آل الشيخ
البيان الملكي بشأن حادثة الرافعة في الحرم المكي كان واضحاً وشفافاً وعادلاً، وحازماً في الوقت ذاته؛ ويضع الصورة كما هي على حقيقتها وبكل ملابساتها أمام الملأ ناصعة البياض، دون ضبابية، أو اعتذارية؛ وهو ما كنا نصبو إليه وننتظره؛ فمثل هذه الحوادث الكارثية، عندما تحدث في دول العالم الثالث، عادة ما تشوب تحقيقاتها بعض الغموض، خاصة إذا كانت هذه الحادثة متعلقة بكبار المقاولين والتجار، الذين هم أصحاب حظوة ونفوذ؛ ولعل هذا الجانب بالذات، ما يجعل المواطن السعودي أولاً، والفرد المسلم ثانياً، يطمئن إلى أنّ هذه الأماكن المقدّسة هي فعلاً لا قولاً في أيدٍ أمينة، يهمها العدالة في تبيان الحقيقة كما توصّلت إليها لجان التحقيق والتقصي، ولا يمنعها عنها لا كبير ولا متنفّذ. نعم السبب الرئيس يعود إلى الأحوال الجوية المضطربة وغير المسبوقة، والمفاجئة، التي سبّبت هذه الكارثة الأليمة بلا شك، وليس ثمة سبباً جنائياً فيها، غير أنّ البيان لم يكتف بتعليق القضية ومسبّباتها على أمر لا يستطيع الإنسان أن يتحكّم فيه، وإنما أشار إلى تدني عامل الحيطة والحذر، وأخذ أي احتمال ولو كانت نسبته ضئيلة في الحسبان، والتعامل معه على قدر كبير من الأهمية، على سبيل الوقاية والاحتياط، وهذا ما تأخذه دائماً الدول المتحضرة بالاهتمام، واعتباره من إجراءات السلامة الوقائية المفترضة، التي يجب أن ينتهجها كل من يضطلع بتنفيذ مثل هذه المهام والأعمال، اتقاءً لمثل هذه المفاجآت الاحتمالية فيما لو حدثت، حتى وإن كانت بعيدة الاحتمال حسب التجارب المتراكمة تاريخياً؛ وهذا ما أشار إليه البيان بشفافية ووضوح، وتطرّق إلى أنّ وضعية ارتكاز الرافعة التي سبّبت الكارثة لم تكن موضوعة بالطريقة التي أوصى بها من صنعها، من باب الاحتياط، فقد أهمل المقاول، إقامتها بصورة صحيحة، ما ساعد في حدوث هذه الكارثة، الأمر الذي وضع نفسه، وشركته، محل التقصير والإخلال بالأمانة والاستهتار بمقتضيات الاحتياط وتدابير السلامة الوقائية. والتحوُّط والإجراءات الاحترازية، يجب من حيث البدء، أن تكون حاضرة ونصب عينيه، فإذا تهاون فيها، جعل نفسه في دائرة التقصير. وانطلاقاً من ذلك، وتأسيساً عليه، تم منع العاملين في إدارة الشركة المالكة للرافعة من السفر، باعتبارهم مسؤولين بتفريطهم في إجراءات السلامة والوقاية، التي كان من المفروض الالتزام بها، حتى يتم الفصل في مسؤوليتهم قضائياً.
أما الجانب الإنساني، الذي تضمّنه البيان، فهو التعويضات السخية للمتوفين والمصابين، خاصة من كانت إصابته، أدت به إلى العجز، كما شملت التعويضات الملكية الكريمة جميع المصابين؛ وهذا أمر قد تعوّده المواطن والمقيم في هذه البلاد من ملوك آل سعود طوال تاريخهم، وليست هذه الحادثة وهذه التعويضات هي الأولى. كما أشار البيان في لفتة جديرة بالاهتمام إلى أنّ هذه التعويضات، لا تلغي أحقية المتضرر أو ورثته من المطالبة بالحق الخاص من المسؤولين عن الحادثة، إذا تقررت قضائياً.
وليس لديّ أدنى شك أنّ هذا البيان الواضح والعادل والمباشر والحازم، سيكون له تبعات إيجابية هامة في سوق الأعمال الإنشائية، ستنعكس على أنّ كل من يعمل في القطاع الخاص من التجار والمقاولين لابد وأن يهتم بالتدابير الوقائية للسلامة، التي كان بعضهم، خاصة غير المنضبطين منهم، لا يضعها ضمن أولويات اهتماماته؛ الآن وبعد هذا الإجراء الحازم سيوليها جل اهتمامه، وإلا فإنه يوماً ما سيضع نفسه في دائرة المسؤولية، في حالة حدث أي حادث، ونتج عنه خسائر بشرية أو مادية؛ فالإيمان بالقضاء والقدر، الذي يتذرّع به البعض، لا يعني أن يتحول إلى مشجب يُعلّق عليه المقصرون، والمستهترون بالتدابير الوقائية تقصيرهم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لصاحب الناقة، عندما تركها ولم يعقلها: (اعقلها وتوكل)، وهذه العبارة قالها على سبيل الاحتراز والتحوُّط، فالقدر والإيمان به لا يعني الإهمال والتفريط في تدابر السلامة.
وللمقاولين والتجار أقول: العاقل من اتعظ بغيره، وتعلّم منه، واتخذ في كل ما يقوم به من أعمال وتعهدات، سواء كانت للدولة أو الأفراد، تدابير الحيطة والحذر والسلامة، ولا يدع الأمور - كما يقولون - تجري في أعنّتها، كيلا يكون عدم مبالاته وتحرّزاته، تعود عليه بالخسران والندم، كما حصل لأكبر مقاول في بلادنا.
إلى اللقاء