خالد بن حمد المالك
لم يكن أمام أي من المواطنين أن يتوقع بما هو أقل مما أعلن عنه الديوان الملكي حول ملابسات حادثة الحرم المكي بتفاصيلها الدقيقة التي تضمنها تقرير اللجنة المشكلة من الخبراء لهذا الغرض، وسرعة الإعلان عن التعامل الذي تم، وما اتسم به التقرير المشار إليه من حزم وعزم للوصول إلى النتائج بحسب ما اتفق عليه المختصون الذين أوكلت إليهم مهمة التحقيق، ومن توجيه كريم بأن يأخذ القضاء حكمه العادل بحق كل من كان طرفاً أو مسؤولاً عما كان سبباً في حدوث الكارثة التي أودت بحياة وإصابة المئات من حجاج بيت الله الحرام، أو ممن صادف وجوده في المسجد الحرام لأداء الصلاة لحظة سقوط الرافعة.
* * *
فقد عرف عن الملك سلمان الحزم، والتعامل القوي مع مثل هذا النوع من الأحداث، بالوقوف عليها شخصياً، ومباشرتها بنفسه، وهو ما يؤكده توجهه بسرعة إلى مكة المكرمة قادماً من جدة في نفس يوم الحادث، وقبل الموعد الذي اعتاد أن يتوجه فيه إلى مكة المكرمة للإشراف على راحة الحجيج، وأن يجول بنفسه داخل المسجد الحرام لتفقد الوضع الذي كان عليه، والتوجيه الفوري بما ينبغي عمله إثر ذلك، ومنه إلى المستشفى بنفسه للاطمئنان على حالة المصابين من جنسيات مختلفة، وإصدار التوجيهات للعناية بهم.
* * *
في التقرير مضامين كثيرة، وإشارات مهمة، ورسائل يجب أن يفهمها الجميع، وتصميم من الملك على أن أي تبريرات أو أعذار لن يكون لها مكان من القبول في عهد سلمان، وأن لا أحد فوق المساءلة، أو المحاسبة، أو الجلوس أمام القضاء، وأن كل من كان شريكاً أو مسؤولاً عن هذا الحادث سوف يلقى الجزاء الذي يستحقه، وهو درس لهؤلاء المقصرين في مجموعة (بن لادن) ولغيرهم من المقاولين الذين لا يعطون ما أنيطت بمؤسساتهم وشركاتهم من مشروعات الاهتمام والمتابعة وضمان الجودة التي تلبي الشروط والمواصفات التي على أساسها تم إيكال مثل هذه المشروعات لهم.
* * *
كان الملك سلمان قد وجه فور وقوع الحادث بتشكيل لجنة مهمتها التحقيق في ملابساته، وأن ترفع له توصياتها، وما تتوصل إليه من نتائج بأسرع وقت ممكن، وهو ما تم فعلاً، حيث انتهت إلى انتفاء الشبهة الجنائية في تقريرها الذي رفعته بعد ثلاثة أيام على وقوع الحادث وأعلن عنه مساء أمس الأول، وأن السبب الرئيس للحادث تعرض الرافعة لرياح قوية، بينما هي في وضعية خاطئة، ومخالفة لتعليمات التشغيل المعدة من قِبل المصنع، حيث تنص التعليمات على إنزال الذراع الرئيسية عند عدم الاستخدام، أو أثناء هبوب الرياح، وأن من الخطأ إبقاءها مرفوعة، إضافة إلى عدم تفعيل واتباع أنظمة السلامة في الأعمال التشغيلية.
* * *
يضيف التقرير، بأن مسؤولي السلامة عن تلك الرافعة لم يطبقوا التعليمات الموجودة بكتيب تشغيلها، مع ضعف التواصل والمتابعة من قِبل مسؤولي السلامة بالمشروع لأحوال الطقس وتنبيهات رئاسة الإرصاد وحماية البيئة، وكذلك عدم وجود قياس لسرعة الرياح عند إطفاء الرافعة، مع عدم التجاوب مع العديد من خطابات الجهات المعنية بمراجعة أوضاع الرافعات، ولاسيما الرافعة التي سببت الحادثة، ولهذا فقد أوصت اللجنة بتحميل (مجموعة بن لادن السعودية) جزءا من المسؤولية، وإعادة النظر في عقد الاستشاري (شركة كانزاس) ومراجعة أوضاع جميع الرافعات.
* * *
وما كان أمام الملك سلمان بن عبدالعزيز الذي كان هذا الحادث في قمة اهتماماته ومتابعاته، إلا أن يحيل هذا التقرير وما يتعلق بهذا الموضوع إلى هيئة التحقيق والادعاء العام لاستكمال التحقيق مع مجموعة بن لادن، وإعداد لائحة الاتهام، وتقديمها للقضاء للنظر في القضية، وإلزام ما يتقرر شرعاً بهذا الخصوص، وهذا ما كان متوقعاً، إذ لا يمكن للملك سلمان أن يتساهل أو يتسامح أو يلتمس العذر لمن كان سبباً أو مسؤولاً عن هذه الكارثة، وهو المعروف بحزمه وتعامله القوي مع مثل هذه الحوادث، لكنه في المقابل ترك للقضاء المستقل في بلادنا أن يقول كلمته، وأن يتم تنفيذ ما يتقرر شرعاً، وفي هذا حفظ لحقوق الجميع، وحماية لمهابة الدولة.
* * *
لكن خادم الحرمين مع كل هذا، فقد استبق نظر القضية لدى المحاكم الشرعية، بمجموعة من القرارات المهمة التي تظهر قوة الدولة وحزم ملكها، فأصدر أمره الكريم بمنع سفر جميع أعضاء مجلس إدارة مجموعة بن لادن والمهندس بكر بن محمد بن لادن وكبار المسؤولين التنفيذيين في المجموعة وغيرهم ممن لهم صلة بالمشروع، وذلك حتى الانتهاء من التحقيقات، وصدور الأحكام القضائية بهذا الشأن، وإيقاف تصنيف المجموعة، ومنعها من الدخول في أي منافسات أو مشاريع جديدة، وألا يرفع هذا الإيقاف إلا بعد استكمال التحقيقات، وصدور الأحكام القضائية، وعلى أن يعاد النظر في التصنيف على ضوء ذلك.
* * *
ومن القرارات الاستباقية المهمة للملك سلمان قبل صدور الحكم الشرعي، جاء التوجيه الملكي الكريم، بألا يؤثر ذلك على المشروعات الحكومية التي تقوم مجموعة بن لادن السعودية بتنفيذها حالياً، وتكليف وزارة المالية والجهات المعنية (بشكل عاجل) بمراجعة جميع المشروعات الحكومية الحالية التي تنفذها مجموعة بن لادن وغيرها للتأكد من اتباع أنظمة السلامة، وفقاً للأنظمة والتعليمات، وفي هذا التوجيه وتطبيقه تضمن الدولة عدم تأثر المشروعات الحكومية القائمة حالياً من حيث فترة إنجازها بما حدث في المسجد الحرام.
* * *
ويظل الملك سلمان بن عبدالعزيز مع حزمه وعزمه وقوته، ذلك الإنسان بأبوته الحانية، وعاطفته الجياشة، فقد أمر بصرف مليون ريال لذوي كل شهيد، ومليون ريال لمن أصيب إصابة بالغة، ونصف مليون ريال لكل من المصابين الآخرين، مع التأكيد على أن هذه الوقفة الإنسانية لا تحول دون مطالبة أي من هؤلاء المتوفين أو المصابين بالحق الخاص، على أن توجيه الملك سلمان في التعامل مع هذا الحادث يشمل استضافة اثنين من ذوي كل متوفى من حجاج الخارج ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين العام القادم، ومثلهم ممن لم تمكنهم إصاباتهم من حج هذا العام أن يمكنوا من الحج العام القادم ضمن ضيوف خادم الحرمين الشريفين، ومنح ذوي المصابين تأشيرات خاصة لزيارة مصابيهم والاعتناء بهم خلال الفترة المتبقية من موسم حج هذا العام.