فوزية الجار الله
انتهيت مؤخراً من قراءة (التائهون) رواية أمين معلوف وهي رواية جميلة ومميزة، وقد سبق لي أن قرأت لأمين معلوف: حدائق النور، سمرقند، ليون الافريقي. . وربما قراءات أخرى للكاتب ذاته لا تحضرني الآن.
لكن هذه الرواية تتميز عن الروايات الأخرى التي قرأتها لأمين معلوف بكونها أكثر واقعية وأكثر حميمية وأكثر اقتراباً من عصرنا الحاضر.
الرواية تحمل رؤية عميقة للكون وللعالم ولتناقضات الإنسان باختلاف جنسه ومذهبه، كذلك تطرح كماً من الأفكار وتفجر نهراً من الأسئلة، استمتعت كثيراً بقراءتها ورغم أنها تتجاوز الخمسمائة صفحة إلا أنها كانت من الروايات القليلة التي تمنيت لو لم تنته.
أجمل ما في الرواية أنها تعكس ثقافة الروائي وسعة اطلاعه والأجمل أن هذه الثقافة بشكل عفوي تلقائي لا تبدو متعمدة أو محشورة ضمن السطور فقط لأجل الاستعراض الكتابي أو الأدبي.
لا أهدف هنا إلى نقد الرواية بقدر ما أحاول الحديث عن بعض ما ورد فيها من أفكار رائعة تستحق التفكير، على سبيل المثال:
(غالباً ما يدور الحديث عن سحر الكتب ولا يقال بما فيه الكفاية إن هذا السحر مزدوج فهناك سحر قراءتها، وهناك سحر الحديث عنها، تكمن متعة قراءة بورخيس بأن القصص المحكية تقرأ والمرء يحلم بكتب أخرى، مخترعة، متخيلة، استيهامية، وخلال بضع صفحات، يشعر القارئ بهذا السحر وذاك معاً) ص488.
هذا ما ذكرته الرواية، وهذا ما حدث لي معها، هو ذلك الشعور الدافئ الحميم الذي يتدفق في أعماقك عند استغراقك بكل ما بك ما بين دفتي كتاب جميل.
(لدي عيب منتشر كثيراً بين المؤرخين: فأنا أهتم بالقرون الغابرة أكثر مما أهتم بعصري، وبحياة شخصياتي أكثر من حياتي. اسأليني عن الحروب القرطاجية، عن حروب بلاد الغال، او عن الغزوات البربرية، ولن يكون بوسعك أن تنتزعي مني الصمت، حدثيني عن الحرب التي عشتها شخصياً، في بلدي وفي منطقتي والمعارك التي كنت أحياناً شاهد عيان عليها.... حتى يقول ( حدثيني عن حياتي وحياة أصدقائي فينعقد لساني ) ص90.
ثم أتوقف عند الفكرة التالية التي أدهشتني: ( لدى جميع العصور بقعتها العمياء، وعصرنا لا يشكل استثناء لهذه القاعدة، ثمة جوانب من الواقع نعجز عن رؤيتها، ولا مفر أن يتساءل كل منا، بعد عدد من السنوات: «كيف أمكنني ألا أرى ذلك؟» وسأطلب منكم على وجه التحديد أن تستشرفوا المستقبل، وأن تحدثوني عن «بقعة عمياء» يتعذر علينا للغاية رؤيتها اليوم، وسوف تبدو لنا بديهية بعد ثلاثين عاماً) ص165.
أخيراً أختتم حديثي بعبارة جميلة، عبارة تتضمن أكثر من علامة استفهام وردت في آخر الرواية:
(أصدقاؤك يصلحون لحمايتك من أوهامك لأطول فترة ممكنة).