د. عبدالواحد الحميد
كل من لديه إلمام، ولو بسيط، بآليات الدورات الاقتصادية التي تتعرض لها الاقتصادات المختلفة يدرك أن هبوط أسعار النفط في الوقت الحاضر ليس أمراً غريباً. وفي تجربتنا التاريخية في هذا البلد عايشنا دورات الصعود والهبوط في أسعار النفط وما صاحَبَها من تغيرات في الدخل والإنفاق الحكوميين في فترات مختلفة.
لهذا فإن الهبوط الذي حدث في أسعار النفط في الأشهر الأخيرة ليس هو ما ينبغي أن يقلقنا وإنما أمور أخرى ذات صلة هي التي يجب أن تقلقنا. ففي الوقت الراهن يوجد لدى الحكومة احتياطيات نقدية ضخمة، ولا تعاني من وطأة ديون خارجية، والدين الحكومي الداخلي لا يكاد يُذكر كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. والأهم من ذلك أن البلد يملك احتياطياً نفطياً أسطورياً وثروة معدنية هائلة وبنية تنموية جيدة.
ما يقلق ليس هو الخوف من أن الحكومة قد لا تجد المال الكافي لكي تنفق منه على مشاريعها وعلى البنود المختلفة في ميزانيتها، وإنما في القدرة على «ترشيد» الإنفاق. وترشيد الإنفاق لا يعني - كما يتبادر إلى أذهان بعض الناس - تخفيض الإنفاق وإنما وضع الريال المناسب في المكان المناسب.
ترشيد الإنفاق قد يعني إنفاق المزيد من المال وليس القليل منه بشرط أن يكون الإنفاق وفق أولويات تنموية حقيقية. والترشيد يعني تَجَنُّب الهدر الذي يُبدد المال العام في ما لا عائد مجزياً من ورائه. فإذا كان الاستمرار في تنفيذ مشاريع تنموية حقيقية يتطلب إنفاق المال فإن الحكومة تستطيع تدبيره حتى لو كانت خزائنها فارغة في وقتٍ ما، وذلك عن طريق الاقتراض مثلاً ثم تُسدد قروضها في أوقات الرخاء. وإنما المقلق هو الصرف على مشاريع متعثرة، أو مشاريع لا يمكن تبرير تكاليفها الباهظة، أو مشاريع تشوبها ممارسات فاسدة.
وما يقلق أكثر من هذا وذاك هو عدم القدرة بشكل كاف على تنفيذ أهداف خطط التنمية المتعاقبة منذ بداية السبعينيات الميلادية من القرن الماضي المتمثلة في تنويع مصادر الدخل الوطني، وتخفيف الاعتماد على تصدير النفط الخام الذي تم اكتشافه في المملكة منذ ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، وما زلنا نزداد اعتماداً على تصديره.
لهذا فإن ما تنشره بعض وسائل الإعلام، وبخاصة الغربية، عن آفاق مظلمة للاقتصاد السعودي بسبب انخفاض أسعار النفط هو ليس أكثر من تحليلات متسرعة، وربما بشكل مقصود. فالمملكة أبعد ما تكون عن «التفليس» الذي تحدثت عنه بعض تلك الوسائل، لكن طموحاتنا بالطبع أكبر من مجرد عدم الوقوع في شَرَك «التفليس»، وإنما في بزوغ اقتصاد وطني قائم على مبدأ الرشد في الإنتاج وفي الاستهلاك وفي المنافسة مع اقتصادات العالم من خلال قاعدة إنتاجية عريضة وغير ريعية.