إبراهيم بن سعد الماجد
في علم التاريخ هناك قواعد، تحكمها أسس حركته، وسريانه بأحداثه وزمانه، أصبحت بحكم العادة قوانين لتفسير ذلك التاريخ وفك رموزه، تلك القواعد والقوانين وضعها العظماء من الرجال وأوجدها بأفعالهم القادة والساسة الأبطال الأفذاذ الذين يصنعون التاريخ نفسه ويغيرون في مسار أحداثه ولا يسايرونها، أولئك الذين يملكون المقدرة على الفعل ويعرفون متى يكون قادراً على تغيير اتجاه التاريخ وتعديل حركة مسار أحداثه لصالح شعوبهم، لتبقى تلك الأفعال محفورة في ذاكرة التاريخ نفسه لتؤكد على قوة وشجاعة من فعل هذا بالتاريخ.
في مسار تاريخ العلاقات الخارجية للمملكة العربية السعودية مع الولايات المتحدة الأمريكية محطات كثيرة ولكن المحطة الأولى في ذلك المسار هي النقطة الفاصلة واللحظة الحاسمة في تاريخ الشعب السعودي وشعب الولايات المتحدة الأمريكية وكان العام 1945 م هو البداية لميلاد تلك العلاقة ذات البعد الإستراتيجي، حيث أدرك حينها الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- بعبقريته الفذة وحكمته النافذة ونظرته البعيدة المدى ذات العمق الإستراتيجي في قراءة الأحداث والناس والزمان، أن نجم الإمبراطوريات القديمة في أفول ودورها التاريخي في صناعة الأحداث في انحسار وتناقص، وأن هناك صعوداً لقوى إمبراطورية جديدة اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً يلوح في أفق الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كانت قبل ذلك في عزلة منكمشة على نفسها حتى خرجت وهي من أقوى دول العالم اقتصادياً وعسكرياً.
لقد أدرك الملك المؤسس عبد العزيز ذلك التحول العالمي في مراكز القوى بنظرة الزعيم والسياسي القوي الذي يريد أن يبني دولة عصرية ذات بنيان قوى وراسخ وكان القرار الذي اتخذه حينها في التوجه إلى إقامة علاقات إستراتيجية وشركة اقتصادية مع تلك القوى الصاعدة كان له أعمق وأعظم تأثير في تغيير مسار أحداث المنطقة بأسرها فبعد أن كانت بعيدة عن مركز اهتمام العالم في ذلك الوقت أصبحت في بؤرة مركز الاهتمام ومحط أنظار الجميع بقوة ثروتها البترولية المكتشفة حديثاً والتي أسهمت تلك العلاقة في استخراج المزيد منه وهو الذي أحدث أكبر التحولات في تاريخ الأمم والشعوب على طول المنطقة وعرضها.
وجرت بعد ذلك أحداث كثيرة في مسار التاريخ وصعد دور المملكة العربية السعودية وبدأ نجمها في المحافل الدولية يبرز وقوتها تكبر وتزداد حتى أصبحت رقماً لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال في كل المواقف الدولية التي تحدد مسار تاريح أحداث عالمنا اليوم وصارت من أكبر الاقتصاديات العالمية ومن أقوى وأهم دول منطقة الشرق الأوسط بأسرها والفاعل الرئيس على مسرح السياسة الدولية مع الكبار والأقوياء الذين يرسمون ويخططون معالم خرائط الحياة على هذا الكوكب اقتصادياً وسياسياً.
واليوم نحن على أعتاب مرحلة جديدة من العلاقات في حقبة تاريخية مختلفة تمر بها المنطقة والعالم، فهناك خرائط دول تتشكل من جديد وأخرى تنهار وتتفكك والعالم يموج بأحداث سياسية لا يدرك معالمها إلا السياسيون النافذون الذين يعرفون كيف يصنعون الأحداث ومتى يتخذون القرارات الصائبة لصالح أممهم وشعوبهم في بحر متلاطم بزحام الأحداث الجسام التي تمر بها المنطقة، فهناك ظاهرة الإرهاب التي أقلقت مضاجع العالم وذهبت باستقرار كثير من الدول في مهب الفوضى والضياع والاقتتال الداخلي مما سبب أكبر ظاهرة لنزوح البشر من أوطانهم في التاريخ الحديث، وهناك الأطماع الإقليمية لبعض الدول التي لا تعرف معنى للاستقرار ولا تريده للآخرين مثل دولة إيران التي تحاول أن تتدخل لتلعب في خرائط بعض دول العالم العربي ديمغرافياً، خاصة في العراق وسوريا التي فككها الإرهاب وحروبها الداخلية الطائفية التي أججتها وأسهمت في صنعها إيران في محاولاتها الدائبة لإثارة عدم الاستقرار في منطقة الخليج العربي بدعمها للمليشيات الطائفية وكذلك بدعمها المتواصل للنظام السوري الذي رفضه الشعب، وتمده إيران بالسلاح ليفتك بشعبه، مما تسبب في نزوح أكثر من 17 مليون سوري عن بلادهم فأصبحوا هاربين من أوطانهم يبحثون عن ملاذات آمنة في دول الجوار أو لجوء خلف البحار.
في ظل هذه الظروف الدقيقة والحرجة التي تحيط بالمنطقة، خاصة وبعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران مع مجموعة دول (5+1)، ذهب المحللون والضاربون على الرمل ينظرون لما بعد الاتفاق وطوّح بهم القول إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أشاحت بوجهها عن حليفها القديم السعودية ودول الخليج ويممت شطر علاقاتها صوب الحليف الجديد إيران، ولكن الذي فاتهم أن لا الولايات المتحدة الأمريكية قادرة على ذلك ولا المملكة العربية السعودية رقماً سهلاً يمكن تجاوزه أو تخطيه.
وكان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز هو رجل المرحلة وصانع حقبة تاريخية جديدة للمنطقة بمواقفه الشجاعة وقراراته الحاسمة خاصة عندما تدخلت إيران في اليمن العمق الإستراتيجي للحدود الجنوبية للسعودية فكانت عاصفة الحزم مدوية في كل أرجاء جنبات السياسة الدولية، وقاصمة قوية على إيران مما جعلها تعيد حساباتها من جديد وتدرك أن المملكة العربية السعودية هي الأقوى ولن تسمح بتلك الألاعيب السياسية أن تمر دون رد قوي يردع إيران ويجعلها تتراجع عن مخططاتها في المنطقة.
في هذه اللحظة الحرجة من التاريخ والمرحلة الحساسة التي تمر بها المنطقة جاءت زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - للولايات المتحدة الأمريكية وهي الأولى له بعد مبايعته ملكاً للمملكة العربية السعودية، تتويجاً لمرحلة تاريخية جديدة تدخلها المملكة العربية السعودية، مرحلة بدأ يرسم معالمها وبقوة وحزم وعزم الملك سلمان بن عبد العزيز السياسي المحنك الذي عركته التجارب وبعبقرية موروثة وبخبرة مكتسبة صقلتها السنين الطوال التي مارس فيها العمل السياسي قريباً من والده وإخوته الملوك الذين سبقوه - رحمهم الله - ومعه فريق كبير من الخبراء الاقتصاديين والوزراء ووفد عالي المستوى من رجال حكومته التي اختارها بعناية لتناسب المرحلة الجديدة التي تدخلها المملكة بقوة وعزم على مواصلة المسيرة الحافلة بالإنجازات التنموية وتحقيق الرفاه لشعبه، ذهب الملك ليقابل رئيس أقوى الدول اقتصادياً وعسكرياً في العالم وشريكاً إستراتيجاً لبلده المملكة العربية السعودية منذ ما يقارب السبعين عاماً وحليفاً دولياً في عالم اليوم الذي تحكمه القوة العسكرية والاقتصادية والعلمية، ذهب الملك تسنده خلفية حضارية عريقة ذات بعد إنساني ضارب في أعماق جذور التاريخ وملكاً لإحدى أكبر الدول المصدرة للبترول في العالم وأقوى الاقتصاديات في منطقة الشرق الأوسط ليجدد تلك العلاقات على أسس جديدة تحكمها متطلبات المرحلة وتحديات قرن جديد مقبل على العالم.
وفي واشنطن جلس الزعيمان ليضعان بلمسات القادرين ملامح حقبة جديدة من العلاقات الإستراتيجية للقرن الـ21 وهما ينقاشان ويتباحثان حول كافة القضايا السياسية الملحة التي تفرض نفسها على المشهد السياسي العالمي والقضايا الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تهم البلدين بالتزامن مع جلوس وفد البلدين كل في مجال اختصاصه لتنفيذ بعض الاتفاقيات والشراكات في المجالات المختلفة.
وفي نص البيان المشترك الذي خرج بنتائج تلك المباحثات فقد أمن الجانبين على أهمية العلاقات المتينة التي تربط البلدين منذ ما يقارب السبعة عقود في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، حيث أكدا أهمية الاستمرار في تقوية وتمتين تلك العلاقات الإستراتيجية بين بلديهما. وفي سياق تأكيده على أهمية الدور القيادي والريادي الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في العالمين العربي والإسلامي فقد شدد الرئيس الأمريكي باراك أوباما على أهمية تكثيف الجهود في التنسيق بين البلدين من أجل الحفاظ على أمن المنطقة واستقرارها خاصة في مواجهة نشاطات إيران التي تسعى لزعزعة استقرار المنطقة، كما تطرق الحديث إلى أهمية الاتفاق النووي في كبح جماح إيران الموقع مع مجموعة دول 5+1 والذي سيضمن حال تطبيقه عدم حصول إيران على السلاح النووي مما يعزز أمن واستقرار المنطقة، حيث عبر الزعيمان عن ارتياحهما لنتائج قمة كامب ديفيد التي عقدت بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية والرئيس الأمريكي خلال شهر مايو الماضي.
وتطرق الزعيمان بكثير من الاهتمام للقضايا السياسية الملحة التي تقلق البلدين خاصة مشكلة الإرهاب والتطرف حيث أكدا تجديد الالتزام على التعاون الأمني بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة ظاهرة الإرهاب والتطرف خاصة القاعدة وداعش والتأكيد على أهمية الحاجة لجهود طويلة وتعاون مستدام من بقية دول العالم لمواجهة هذه الظاهرة.
وتطرق الحديث بين الزعيمين وتشعب حول الكثير من القضايا السياسية التي تهم البلدين خاصة الوضع في اليمن وسوريا والعراق والنزاع الفلسطيني الإسرائيلي والوضع في لبنان واتفقا على مجموعة من القضايا حول تلك النزاعات وإيجاد الحلول وفقاً للقرارات الأممية الصادرة حول ذلك.
ويبقى الجانب المهم والإستراتيجي في تلك الزيارة هو تحقيق أكبر شركة إستراتيجية في القرن الواحد العشرين تقدم بطرحها للرئيس الأمريكي الأمير الشاب صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيزآل سعود ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، حيث برز كأنموذج متميز لجيل الأمراء الشباب من الجيل الثالث لأحفاد الملك المؤسس، والذي عرف عنه حسه العالي في التعامل مع ملفات التخطيط وامتلاكه القدرات والكفاءات العالية في إدارة العمل واهتمامه بالتطوير وحرصه الشديد على العمل المؤسساتي المتحقق النتائج وفقاً للأهداف والرؤية والأبعاد، حيث اشتمل ذلك الطرح الذي تقدم به سموه على رؤى طموحة تنقل العلاقات الاقتصادية بين البلدين إلى آفاق أرحب وأوسع وذات بعد إستراتيجي يتلاءم مع متطلبات قرن جديد وحقبة تاريخية مقبلة بتحديات اقتصادية مختلفة، حيث أصدر على الفور خادم الحرمين الشريفين والرئيس باراك أوباما توجيهاتهما للمسؤولين في حكومتيهما بوضع الآلية المناسبة للمضي قدماً في تنفيذها خلال الأشهر القادمة.
وفي الجانب الاقتصادي أيضاً تم عرض العديد من المشروعات الاستثمارية للجانب الأميركي من ضمنها مشروعات في مجال التعدين بحجم استثمارات معروضة تقدر ب 200 مليار دولار أبرزها في قطاعي الفوسفات والبوكسات، واستثمارات في قطاعي النفط والغاز وحجم الاستثمارات فيهما خلال السنوات الخمس المقبلة يقدر بـ300 مليار دولار.
كما تم عرض فرص استثمارية في قطاع التجزئة يصل حجم المشروعات المعروضة إلى نحو 75 مليار دولار.
وجرى خلال القمة عرض استثمارات للجانب الأميركي في قطاعي الإسكان والصحة بما يعزز احتياجات المواطن في المستقبل.
تلك إذاً نقلة كبيرة في حجم العلاقات بين البلدين في ظل ظروف سياسية حرجة تمر بها المنطقة والعالم تنقلنا إلى رحاب عالم جديد يتشكل برؤى جديدة وفقاً لقواعد يضعها صانعو الأحداث الذين يعرفون كيف يحققون المكاسب الكبيرة لأوطانهم وشعوبهم من أجل الوصول بهم إلى تحقيق الرفاه والأمن الاقتصادي والإستراتيجي.
زيارة كانت ناجحة بكل المقاييس وموفقة, حتى في التفاصيل الصغيرة لتلك الزيارة.
والله الموفق.