علي الصراف
الإرهابيون يرتكبون جرائمهم باسم الإسلام، بينما مشاعر الغالبية العظمى من المسلمين تستقبلها بالاستنكار والنفور. هناك سبب وراء هذه المفارقة. فبينما يحاول الإرهابيون أن يسندوا جرائمهم إلى تفسيرات ظالمة وضالة، يظل من الجلي أن تلك الجرائم لا تتطابق مع قيم الإسلام وأخلاقياته.
هناك نصوص وتفسيرات، إذن، يجري توظيفها كتبرير «شرعي» للجريمة. وهناك في المقابل قيم وأخلاقيات تستند إلى ذات النصوص، لا يمكنها أن تقبل أي جرم.
ومن التطابق أو التفارق بين النصوص وأخلاقياتها تتكشف طبيعة التوظيف وغاياته.
من هنا تبدأ المفارقة.
ولئن ظل الإرهاب معزولاً، فبفضل إدراك متجذر ومتأصل وعميق لدى عامة الناس، جعلهم قادرين على أن يميزوا، بمحض الحس أحياناً، بين الأصيل وبين الدخيل على دينهم.
وثمة من الإجماع ما يسند هذا التمييز. وكما العلاقة بين الدال والمدلول، فإنه لا يمكن الفصل بين النص المقدس وأخلاقياته دون أن يفقد أحدهما معناه.
الذين يستخدمون النصوص لتبرير ما يرتكبونه من جرائم ضد الناس، إنما يفصلون النص عن مقصده، ويسيئون إليه، ويحولونه إلى جسد بلا روح.
الإسلام منظومة قيم وأخلاقيات. ولا يمكن قراءته أو فهمه أو النظر في تاريخه وأحداثه، من دونها.
والقيمة أرقى مكاناً في الأولويات من الواقعة أو الحادث. حتى ليجوز القول إن الواقعة ما وقعت إلا لتكشف عن دلالتها للناس.
إلى أين يجب أن نمضي من هنا؟ أ لتكرار الواقعة أم لتكرار الدلالة؟ أ لتكرار الحادثة أم لتكرار القيم؟
هذا السؤال يجعل خيط الفصل واضحا بين مقاربتين تختلفان جذرياً. واحدة تنظر إلى الماضي على أنه واقع قابل للعودة إليه. وأخرى تمضي إلى الأمام وهي تضع الماضي نصب العين كمصدر للقيم والأخلاقيات.
والحال، فإن الذين يتشبثون بالواقعة دون قيمها، مثلهم مثل الذين يتشبثون بالنص دون مقصده، إنما يُسيئون إليه، ويخرجونه من سياقه القيمي.
والنص إذا كان قابلا لتفسيرات، فإن مقاصده ليست كذلك. لأنها تقصد الخير والرحمة والعدل والسلام. وهي مقاصد لا يكون الإسلام إسلاماً إلا بها.
وهذه المقاصد هي تاريخ الإسلام الحقيقي، وليس السرد الكرنولوجي لخليفة جاء، وآخر ذهب.
والتاريخ هو الدرس والدلالة والمعنى، وليس الحادثة! فالحادثة تذهب، ولكن الدلالة تبقى. ومن الدلالات تنشأ الحضارات، وليس من تراكم الحوداث.
وأن يُحفظ الدين باليُسر، يعني أن يُحفظ بالحكمة والموعظة الحسنة، واستجلاب المصلحة ودرء الضرر.
فكيف إذا كان النص واضحاً وضوح مقصده؟
خذ القتل مثلاً. فالآيات التي تحرمه صريحة النص، وصريحة المقصد، (النساء، 93)، (الأنعام، 147)، (الإسراء، 33)، (الفرقان، 68-69)، (البقرة، 195)، (النساء، 29) وغيرها الكثير.
فكيف تم تبرير كل ما نراه اليوم من أعمال للقتل؟
في الواقع، فإن الغُلاة العُتاة يضعون فوق النص، أو فوق مجتزئ منه، نصا آخر لكي يبرروا به ما يرتكبون. وقد يستشهدون بحادث، ويستجلبون واقعة من وقائع التاريخ إنما بعد تجريدها من الدرس القيمي الذي وقعت لتقدمه.
وهم إذ يقصدون ارتكاب الجريمة في المقام الأول، فإنهم يوظّفون النص، أو النص على النص، ليكون غطاء لها.
هم يريدون القتل. ولديهم القول (على سبيل المثال) {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} (91) سورة النساء. فكان ذلك كافيا لهم. أما من هم أولئك الذين يجب قتلهم، ومن أجل ماذا، فهذا ما لا يهم في ثقافة الإرهاب. لماذا؟ لأن القتل هو الهدف، بينما معنى الآية يشدد على عدم جواز الابتداء بالقتل. فما بالك بقتل من لا ذنب له، وما بالك بمن لم يُبتل بفتنة الشرك، ومن لم يُخرج أحدا من داره، ومن لم يرفع سلاحا، بل وما بالك بمؤمن يُقتل في مسجد وهو يؤدي صلاته لله عز وجل!
الحس الطهور لدى عامة الناس، يدلهم على أن الآية الكريمة إنما جاءت في مقاتلة المشركين، وهي لم تشمل إلا المقاتلين منهم، ولم تغلق عليهم الباب. وهي لا تمنح الحق بقتل مسلم ولا مسيحي ولا يهودي ولا أي ممن لم يشركوا بالله، ولم يقاتلوا في ما يعتقدون.
مجرمون مثل أولئك الذين ينتمون إلى تنظيمات التطرف والعنف ينتهكون من هذا الدين ما لم يجرؤ عليه أحد.
إنهم يقتلون، ويفتكون بأعراض الناس، وينتهكون الحرمات على نصٍ أُخرج من سياقه حتى بات خارجا عن المعقول،.. وما من رجل منهم تلفع بالدين وأراد أن يبرر لنفسه عملاً شائناً، إلا واستعان بارتكابه على نص! حتى بات النص صالحاً لكل شيء.
والجدل في استخدام آيات القرآن الكريم، قديم. ولكن الحس الأخلاقي السليم ظل على الدوام هو التيار الرئيسي بين المسلمين.
أنظر في هذه المجادلة على المثال: «قال نافع: جاء رجل إلى ابن عمر في فتنة ابن الزبير، فقال ما يمنعك أن تخرج؟، قال يمنعني أن الله تعالى قد حرم دم أخي. قال ألا تسمع ما ذكره الله عز وجل:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} (9) سورة الحجرات، قال يا ابن أخي لأن أُعيّر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إلي من أن أعيّر بالآية التي يقول الله عز وجل فيها: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} (93) سورة النساء. قال ألم يقل الله {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} (193) سورة البقرة، قال قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلا وكان الرجل يُفتن في دينه إما يقتلونه أو يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة وكان الدين كله لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله».
وهذا الشيء الأخير هو ما يفعله الإرهاب. فهو يحول الدين إلى فتنة لغاية لا علاقة لها بالدين.
تاريخيا، بدأ الانحطاط من التوظيف الانتهازي للنص، لكي يخدم مقاصد غير مقاصده. وعامة الناس يعرفون، ولو بالحس المجرد، أن مفارقة الإرهاب التي تستعين بالنص، إنما تفترق عن مقاصد النص وكلياته وأخلاقياته لكي تحوله إلى فتنة.
ما قال الصادق الأمين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، إلا لكي نفهم أنه لا إسلام من دون أخلاقياته. (وما أعظم التوكيد في ذلك الحرف: إنما)، ذلك أن بعثته، إنما كانت في الأصل بعثة أخلاق!
فإذا كان الإصلاح مطلوباً، فلعل من أول الواجب، أن يحول فقهاؤنا الأفاضل دون التوظيف غير الأخلاقي للنص. وأن يكفّ كل من أراد أن يرتكب شائنة عن اسنادها إلى نصّ! وأن تُحاكم الأفعال ليس بمقدار تبريرها بنص، وإنما بمقدار توافقها مع قيم الإسلام وأخلاقياته ومقاصده.