د.عبد الرحمن الحبيب
يقول الشاعر العراقي مظفر النواب:
فبعضي عاشق يصحو وبعضي عاشق ثَمِلُ
عراقيٌ هواه وميزةٌ فينا الهوى خبَلُ
بلادي ما بها وسط وأهلي ما بهم بُخُلُ
هذا خيال شاعر، إنما آخر التقارير المنهجية البعيدة عن الخيالات تؤكد أبيات النواب، حسب تقرير صدر الأسبوع الماضي لمؤسسة «غالوب» الدولية عن العواطف العالمية، أظهر أن العراق هو البلد العربي الوحيد من أوائل العشرة العاطفيين بالعالم التي هيمنت عليها دول أمريكا اللاتينية مع الفلبين التي هي أيضاً أظهرت على مدى أعوام أنها من البلدان الأكثر عاطفية؛ بينما أظهر سكان بنجلاديش أنهم أقل شعوب العالم في مؤشر العاطفة.
تلك مؤشرات حسب نتائج استطلاع سنوي منذ عام 2006 يقيس المسائل غير المحسوسة من العواطف والمشاعر بدلاً من القياس التقليدي كمؤشر دخل الفرد؛ من أجل تقديم رؤى للقادة في صحة مجتمعاتهم وتنبيههم أنه لا يمكن الاكتفاء بالتدابير الاقتصادية وحدها. ويعرض التقرير الأخير نتائج قياسات التجارب اليومية الإيجابية والسلبية للناس، استناداً لنحو 153 ألف مقابلة في 148 بلد عام 2014.
القياس تم بعشرة أسئلة للناس عما إذا تعرضوا لخمس مشاعر إيجابية وخمس سلبية في اليوم السابق للاستبيان. أسئلة السلبية تشمل: الغضب، التوتر، الحزن، الألم الجسدي، القلق؛ والإيجابية تشمل: استراحة طيبة، معاملة محترمة، متعة، ابتسام وكثير من الضحك، عمل شيء مثير. الإجابة بنعم على الأسئلة تشير إلى الأكثر عاطفية والعكس صحيح. لذا لا نندهش أن نجد شعوب بعض البلدان الذين هم في مراتب متقدمة بالمشاعر الإيجابية (كثير من الضحك) هم كذلك في المشاعر السلبية (كثير من الحزن)، بينما سكان بلدان أخرى يميلون إلى التعبير عن عواطف أقل إيجابية أو سلبية..
كما أشير أعلاه، تصدرت دول أمريكا اللاتينية البلدان الأكثر عاطفية لعام 2014 ومعها الفلبين والعراق، بنحو 59%، أي تقريباً ستة من عشرة في تلك البلدان أفادوا بأنهم مروا بعواطف إيجابية أو سلبية في اليوم السابق للأسئلة. بالمقابل فإن دول الاتحاد السوفيتي السابق هيمنت على المؤخرة ومعها السودان فيما قبعت بنجلاديش في ذيل القائمة (37%)، حيث ذكر أكثر من أربعة لكل عشرة من السكان أنه لم يعان أياً من تلك المشاعر لا إيجاباً ولا سلبا. أما السعودية فقد حصلت على مرتبة متقدمة نسبياً في العواطف (53%)، ومشابه لذلك الكويت والإمارات والبحرين، تلاهم الأردن وفلسطين (50%) فمصر والمغرب وموريتانيا (47%) ثم لبنان واليمن (45%) وما قبل الأخير الصومال وتونس والجزائر (43%)..
ما الذي يحرك عواطف الشعوب؟ يبدو أن الثقافة تلعب دوراً رئيسياً، فمتغير واحد من مؤشرات النتائج وهو بلد المنشأ، أظهر تحيزات ثقافية في إجابة الناس على هذه الأسئلة حيث تشابهت نسبياً نتائج البلدان المتجاورة، مثل بلدان أمريكا اللاتينية. إذ تأثر مؤشر المشاعر الإيجابية من خلال أشياء غير اقتصادية كالحرية الشخصية والشبكات الاجتماعية القوية، مما قد يفسر لماذا الناس من بلدان أمريكا اللاتينية التي تعد فقيرة نسبياً يشعرون بحياة إيجابية أكثر من غيرهم.
كما أن العواطف تتأثر بحدة بالأحداث الكبرى. فقد أدت الحرب الأهلية إلى انهيار مؤشر المشاعر الايجابية في سوريا في استبيان جرى عام 2012، وكان الانخفاض الأكثر حدة منذ بدأ استطلاع غالوب حتى الآن. علاوة على ذلك، أظهر السودان أدنى المعدلات في العالم للعواطف الإيجابية في العام الذي تزامن مع صراع الانفصال. كما أدى الانهيار الاقتصادي في اليونان إلى قفزة هائلة في المشاعر السلبية داخل البلد.
إذا استعرضنا لمحة عن تفصيل النتائج نجد أنها مشجعة رغم ما يمر به العالم من اضطراب، فمعدل دول العالم للمشاعر الإيجابية كان 71% نالت العشرة الأوائل جميعها دول أمريكا اللاتينية واحتلت المقدمة باراغواي 89%، كولومبيا، إكوادور، جواتيمالا (84%).. أما العشرة الأواخر فكان الأخير السودان 47%، ثم تونس 52%، فبنجلاديش وصربيا وتركيا 54%، وأفغانستان، البوسنة، جورجيا، لتوانيا، نيبال 55%.
المثير أن من البلدان التي لديها أقل عدد ممن عبروا عن مشاعر ايجابية مثل أفغانستان التي أنهكته الحروب لا يزال لديه غالبية (52%) تبتسم أو كثيرة الضحك. ربما ذلك دليل على مرونة الروح البشرية، فثلاثة من كل أربعة أشخاص حول العالم قالوا إنهم ابتسموا أو ضحكوا كثيراً في اليوم السابق للاستبيان، مع انخفاض نسبة أقل من الأغلبية في ثلاثة بلدان فقط: تونس (47%) وصربيا وتركيا (43%). إنما توزع المشاعر الإيجابية إقليمياً كان في أدنى مستوياته في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بمعدل 60 درجة، يستثني منها الإمارات والبحرين والكويت والسعودية التي كانت أعلى قليلاً من المعدل العالمي.
بالنسبة للمشاعر السلبية كان العراق في المقدمة بـ56 درجة ثم إيران (50 درجة). هذان البلدان كانا في المقدمة للمشاعر السلبية لعدة سنوات في مسوحات غالوب، لذا فإن محللي التقرير يرون أن المشاعر السلبية قد ترجع إلى عوامل الاضطراب السياسية أو الاقتصادية أو الصحية، مثلاً في ليبيريا وترتيبه الرابع في المشاعر السلبية كان مرض ايبولا متفشياً أثناء إجراء المسح.
عموماً، كمعدل عام، الناس في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يَجمعون على حد سواء أعلى المشاعر السلبية وأدنى المشاعر الإيجابية في العالم، حتى أن التقرير أطلق على المنطقة عنوان فرعي: «موطن المشاعر السلبية». الملفت للانتباه أن دول الاتحاد السوفييتي السابق كانت ضمن العشرة الأواخر في المشاعر السلبية ففي الترتيب الأخير كان أوزبكستان بـ12 درجة فقط، رغم أن بعضها كان أيضاً متأخراً في الدرجات في المشاعر الإيجابية مما يعني أن المشاعر الإيجابية والسلبية ليست متعاكسة. ذلك يؤكد أن مشاعر الإنسان ليست آلية، كما لاحظنا في المثال السابق لأفغانستان..
الدرجات العالية السلبية للعراق تعزى لحد كبير إلى معدلات مرتفعة نسبياً من العراقيين الذين أعربوا عن مشاعر القلق (62%)، الحزن والألم الجسدي (57%)، التوتر (55%)، ونصف العراقيين (50%) عانوا من الغضب في اليوم السابق للاستبيان. يقول التقرير إن العراقيين يقودون العالم في الحزن.. أما مظفر النواب فيقول:
«وحزن مثل أسواق العراق!»؛ محطماً أركان التشبيه بتحويل المشبه به إلى مشبه من فرط الحزن العراقي..