د.عبد الرحمن الحبيب
معظم السعوديين يفضلون العمل الحكومي (75 % من السعوديين و78 % من السعوديات) وقلة تفضل القطاع الخاص (19 % رجال، 14 % نساء). لماذا؟ بسبب الشعور بالأمان الوظيفي في القطاع الحكومي، رغم أن غالبية السعوديين يرون أن رواتب القطاع الخاص مغرية. هذه معادلة تحتاج موازنة..
تلك الإحصاءات جاءت في تقرير صدر الأسبوع الماضي لمؤسسة «غالوب» الدولية، أظهر فيه نتائج متنوعة عن مسألة التوظيف في السعودية باستطلاع للرأي استند على مقابلات هاتفية مع 2535 مواطناً سعودياً، تمت بين عامي 2013 و2015. سيتم هنا استعراض ومناقشة أهم نتائج التقرير.
تواجه الشركات العاملة في السعودية تنظيمات جديدة من الحكومة السعودية لتوظيف المزيد من السعوديين مما شكل على القطاع الخاص ضغوطاً يبدو أنه لم تتهيأ لها بعد. برنامج نطاقات لتشجيع عمل السعوديين في القطاع الخاص، يلزم الشركات بتوظيف نسبة من السعوديين حسب نوع القطاع. لذا، فإن الشركات تحتاج لجذب السعوديين المؤهلين، لتكون قادرة على الاستمرار في العمل كيلا تتورط بموظفين غير مؤهلين يزعم القطاع الخاص أنه يعاني منها. للمساهمة في حل ذلك يجب التغلب على مشكلات المفاهيم الاجتماعية السائدة للعمل، وليس فقط توفير فرص العمل.
التغيرات الاجتماعية تترافق مع ما تبذله الحكومة السعودية لتنفيذ قوانين محفزة لفرص التوظيف، من أجل إقناع العاطلين عن العمل للتوجه للقطاع الخاص وإلزام الأخير بذلك. جهود الحكومة لتعزيز توظيف السعوديين في القطاع الخاص خفضت معدلات البطالة إلى 11.7 % في الربع الثالث لعام 2013، وفقاً لوزير العمل آنذاك عادل فقيه، الذي أوضح أن السعودية بحاجة لخلق ثلاثة ملايين فرصة عمل للسعوديين عام 2015 وستة ملايين بحلول عام 2030.
بعد كل هذه الجهود ارتفعت نسبة السعوديين في القطاع الخاص أربع نقاط مئوية فقط بين عامي 2011 و 2013، من 10 % إلى 14 %. المفترض أن برنامج نطاقات بمثابة ضمانة لاستيعاب المزيد من السعوديين في القطاع الخاص؛ لكن 34 % فقط من السعوديين يرون القطاع الخاص يلتزم بجذب المواطنين. كذلك فإن غالبية السعوديين (79 %) يرون أن القطاع الخاص يفضل توظيف العمالة الوافدة.
بطء انخفاض نسبة السعوديين في القطاع الخاص يسهم فيه بالقدر الأكبر انخفاض مشاركة المرأة، رغم أن الإجراءات الحكومية عملت على إزالة تدريجية للحواجز الثقافية التي تحد من فرص عمل المرأة السعودية. لكن يبدو أن هذا التحول يلاقي قطاعاً خاصاً غير مستعد للتعامل مع موجة من النساء السعوديات النشطة اقتصادياً حيث تمثل نسبة ضئيلة في القطاع الخاص؛ بينما تظهر تقارير وزارة الخدمة المدنية أن النساء يمثلن 38.3 % من العاملين في القطاع العام.
وقد نبه صندوق النقد الدولي بضرورة إجراء «إصلاحات شاملة» في السعودية ودول أخرى في مجلس التعاون الخليجي لإعادة توجيه ممارسات التوظيف لتشمل المزيد من فرص العمل للمواطنين في القطاع الخاص. ويؤكد الصندوق أن زيادة عدد السعوديين العاملين في القطاع الخاص ليست مجرد خلق فرص وظيفية، بل تحتاج إلى إمداد القطاع الخاص بسعوديين مؤهلين تقنياً ليمكنهم المنافسة مع المغتربين على الفرص الوظيفية.
الواقع أن الحكومة السعودية استثمرت بشكل كبير في نشر التعليم التقني، لكن هذا لا يعني أن السعوديين المؤهلين الباحثين عن وظائف يجدون أنفسهم في وضع أفضل للمنافسة في القطاع الخاص حسب النتائج حتى الآن. عندما نقارنهم مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي، نجد أنهم يحصلون على رواتب أدنى.. فمتوسط الراتب الشهري للسعوديين العاملين في القطاع الخاص 6400 ريال، مقارنة مع متوسط 15200 ريال في دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.
ورغم أن التغيرات الاقتصادية تتطلب زيادة فرص عمل السعوديين في القطاع الخاص، فإن هذا القطاع يحتاج أيضاً إلى التكيف لخلق بيئات عمل وثقافة تناسب السعوديين، وبشكل خاص الإناث. فاستيعاب السعوديات في القطاع الخاص يتطلب من الشركات إدراك حساسية المعايير الثقافية، مثل فصل الموظفين الذكور والإناث في مكان العمل، وهي حالة فريدة من نوعها عالمياً. وفي الوقت نفسه، يتطلب أيضاً التخفيف من المعايير الثقافية السائدة لتلبية احتياجات القطاع الخاص، فالتغيرات الاقتصادية يتبعها تغيرات اجتماعية.
حاجز آخر يحتاج التغلب عليه، وهو كسر جمود معادلة العمل 90/90، أي حوالي 90 % من السعوديين يعملون في الحكومة و90 % من القطاع الخاص تمتلئ بنحو سبعة ملايين مغترب من العرب وغير العرب. هذا الخلل في الجنسية يمكن أن يؤثر سلباً على نفسية العاملين في القطاع الخاص، السعوديات بشكل خاص، مما قد يؤدي إلى مشاعر العزلة أو الاغتراب في أماكن عملهم. استيعاب السعوديين عملية معقدة، فبيئة العمل المتعددة الثقافات تتطلب من الوافدين والسعوديين بذل جهود واعية لقبول بعضهم البعض، والتغلب على الصور النمطية لفهم الآخر للعمل.
هذا يعني أن العوامل الثقافية يجب أن تنال اهتماماً مماثلاً للعوامل الاقتصادية.. مثلاً، السعوديون بحاجة إلى أكثر من راتب جيد في القطاع الخاص: بحاجة للشعور بأنهم موضع ترحيب وأن الشركات ترغب في توظيفهم لمهاراتهم، وليس فقط لأنهم مجرد رقم لملء الحصص التي يفرضها برنامج نطاقات. المسألة لكي تصبح أكثر قابلية للفهم ليست اقتصادية بحتة بل يؤخذ في الاعتبار المتغيرات الثقافية والنفسية في معادلة التوظيف.
الآن، يعتقد السعوديون أن القطاع الحكومي يوفر الأفضل، في حين أن القطاع الخاص بدأ بالكاد القدرة على المنافسة. لقد حان الوقت للمسؤولين في القطاع العام والخاص للبحث والتفكير فيما وراء الراتب أو نسبة السعودة كرقم مجرد إلى كيفية استيعاب السعوديين في بيئات القطاع الخاص من ناحية الحقوق والأمان والبيئة الثقافية كي يزدهر هذا القطاع.
كما أن السعوديين عليهم إعادة النظر في مفاهيم العمل السائدة... لماذا يناضل كثيرون خارج السعودية للعمل داخلها؟ لأن بها فرص عمل مغرية؛ وهي كذلك بالنسبة للسعوديين، ليس فقط لأصحاب المؤهلات والخبرات العالية، بل أيضا لأصحاب المواهب الذاتية ورؤوس الأموال الصغيرة لإنشاء محلات خاصة.. والسعودي الذي لا يجد نفسه في هذه الخيارات لديه المهن الصغيرة كأعمال البيع المتجول المرخص بها من البلديات.. الوظائف الحكومية لم يعد مضمون الحصول عليها: وظيفة آمنة من المهد إلى اللحد.. هذا زمان مضى!