د. خيرية السقاف
يسأل عن نظرائه، أين هم..
لمَ لا يزورونه، أو يواصلونه..؟!
أهم في مدينته التي استقر فيها بعد رحلات طالت به خارجها، تقلّبت به فيها أيام العمل، والكفاح، والاسترزاق..؟
يعتصر ذاكرته لتلهمه أسماءهم، ويستأنف أسئلته ،
وبخفوتٍ قلِقٍ يهمسُ : ألا يزالون أحياء..؟
لكنه لا يدري أنّ أكثرهم قد توسّد التراب..!
هم في نعيم يرفلون بالعافية، هذا هو الجواب..
ذلك لأنّ دموعه أسرع من أن يلجمها غير هذا الأمل في أن يكون رفقاؤه في نعيم في حياتهم،!!
بلى نعيم الأمل في رحمة الله بهم، وعفوه عنهم وإن كانت حياتهم هي الثانية.. حيث رحلوا عنه ولا يدري..!
يداه المتغضنتان ترتفعان للسماء: الحمد لله..
السنون الطويلة المكتظة التي قد ركنت على كاهله بعبئها الثقيل، قد أوهنت كتفيه،
حنت ظهره، غارت بعينيه،..
لكنه بكل ما فيه من النقاء، والنُّبل، والجمال، وطيب النفس، وبراح الخاطر،
والتحلل من غرور الدنيا، يشرق وجهه صفاءً، وتلمع عيناه نقاءً، وتعذب كلماته طيباً..!
خفيف من همومها، متحرراً من أسرها..
تقارنه هذا الذي تخطّى التسعين وزيادة بأبناء الوقت، هؤلاء الذين ينغمسون في ماء الحياة غوصاً،
ويتسارعون في مضاميرها ركضاً،
يدورون مع ساقيتها التي لا تفتر عن التسارع ، تكشح في وجوههم رذاذها فتعمي عليهم سعة الدروب، ونقاء الفطرة، وصفاء الفضاء،
وتخطف في لمعتها استقرار أبصارهم، ووضوح رؤيتهم، فتسأل :
كم من الطيبين الزاهدين الموقنين الأصفياء المتصافين مع الحياة قد بقي؟!!
وحين من حوله الأبناء، والأحفاد كسوار من أمان، وخاصرة من حب،
تتفكر في العاقين الذين أخذتهم بهرجة الدنيا، ونسوا مع منافعهم فيها آباءهم ، وكثر فيهم من يقتلهم إن لم يفعل بأجسادهم، فبقتل قلوبهم كمداً، وحزناً، وخيبة..؟!
ومنهم من ينسى مع كل ما يذكر أنّ هناك ظهراً أنجبه، وكفين حملتاه، وأحشاء ربته قبل حدب النهار، وسهر الليل..
ويبقى يجتر ذكريات أيامه هذا الطيب،
يستعيد تصفّح وجوه رفقائه من ذاكرته التي بهتت ،
يحاول جاهداً لضم حروف أسمائهم ما أسعفه لسانه،
تبتهج ملامحه كلما تشكّلت بعضٌ من الجمل عنهم..!!
لكنه لا يأتي على مثل ذلك مع أبويه،
إذ تفوّقت ذاكرته في حفظ كل لمحة عنهما لم تنس،
وأي موقف مر به عنهما في حياته،!!
يتبسّم وهو يختم أسئلته: «كنت ولا أزال أسأل الله أن نلتقي»..
هما من آنسا له الحياة برفقتهما، وهما من يتمنى أن يرافقهما أنس الجنة برحمة ربه.
إنه عبقٌ من عبقٍ لم يبقَ منه في دنيانا إلاّ عبيرٌ خاطفٌ يطوَّف بمن يتأمله..!!
إنه مدرسة لمن يشاء أن يتعلم..!!