سلمان بن محمد العُمري
رسالة وصلتني من جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية مرضى الفشل الكلوي «كلانا» مفادها أن تكاليف جلسات الغسيل لمريض الفشل الكلوي تكلف (200.000) ريال سنوياً!!
وإذا نظرنا أنه يوجد أكثر من 15 ألف مريض في المملكة لديهم فشل كلوي ويقومون بعملية الغسيل. نجد وبعملية حسابية أن تكلفة الغسيل فقط لمرضى الكلى في بلادنا سنوياً تبلغ (3.000.000.000) ثلاثة مليارات ريال!!
وبحسب تأكيدات المسؤولين أن عدد مرضى الفشل الكلوي يتضاعف وفي تزايد مستمر، وذلك نتيجة ارتفاع نسبة الإصابة بداء السكري وارتفاع ضغط الدم وعدم السيطرة عليهما بشكل منتظم حيث إن هذين المرضين من أكثر الأمراض المؤثرة على الكلى، والمؤدية للإصابة بالفشل الكلوي المزمن.
ولست هنا بصدد ذكر مخاطر المرض أو ما تقوم به القطاعات الصحية من جهود والجمعيات الخيرية وإسهامها - قدر الاستطاعة - في الحد من انتشاره وعلاج المصابين فيه.
إن المطلع للأعداد المتزايدة من المصابين والتكلفة العالية لبرامج تشغيل مراكز الكلى بل وقلّتها وحاجة الكثير من المصابين في المدن والمحافظات والمراكز في بلادنا لها يحتّم التفكير جلياً بإيجاد دعامة للقضاء على المشكلات المالية وموارد مساندة لذلك. يتمثل في الوقف الذي يعد أهم ركيزة أساسية ومن هنا ينبغي العمل لإيجاد أوقاف خيرية مساندة مخصصة للعلاج «الوقف الصحي» تساهم وتساند الجهود المقدمة من ميزانية الدولة للقطاع الصحي بمختلف أنواعها.
لقد تعدّدت مناحي الوقف وعدم اقتصاره على أمور محدودة، كما يظن البعض حينما يقصر الوقف في بناء المسجد فقط أو الطعام والشراب، على الرغم من مكانة المسجد في حياة المسلمين إلا أن بعض المشروعات تعطى الأولوية، ولا سيّما إذا تعلّقت بصحّة الإنسان وإنقاذه من المرض وعمل الأسباب لشفائه.
والقرآن الكريم يحوي عددا من الآيات الكريمة التي تحث على ضرورة البذل فـي مجالات الوقف الإسلامي: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [آل عمران: 92]، (وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الحديد: 10]، وكذلك آية: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد: 11]، وآيات أخرى تحمل في ثناياها حضّاً على الإنفاق تصريحاً كان أو تلميحاً، وكذلك الأحاديث الكثيرة التي تغص بها كتب الحديث النبوي الشريف، والتي تدعو إلى تحفـيز أصحاب الأموال من هذه الأمة وحتى فقرائها فـي نيل الخير بالإنفاق، وكان أشهر تلك الأحاديث ما رواه البخاري : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، وما رواه الجماعة عن وقف عمر - رضي الله عنه - من سهمه فـي أرض خيبر، حيث تصدق بها عمر على أن يحبس أصلها وألا تباع ولا توهب ولا تورث، وكذلك ما فعله عثمان بن عفان - رضي الله عنه - من وقف بئر رومه لينتفع به المسلمون جميعاً، وما روي عن جابر قوله لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذا مقدرة إلا وحبَّس « أي: أوقف شيئاً على أعمال الخير « فكانت هذه الأحاديث وغيرها وما تبعها من وقائع عبر التاريخ الإسلامي من كثرة الواقفين دافعاً لمزيد من مساهمة الوقف الإسلامي في عملية النمو الاقتصادي والاجتماعي والعلمي، ولا زال بعض هذه الأوقاف قائماً كشاهد على مدى خيرية هذه الأمة التي تسعى لاستمرار الخير إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذين فقدوا نعمة الإنفاق والبذل والرحمة هم أشقياء، لأنهم أبعد الناس عن رحمة الله، فقد قال الصادق المصدوق: (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (من لا يرحم لا يُرحم)، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - مبلغ عن ربه، ومن تمام طاعته وكمال اتباعه الالتزام بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، ومما أمر الله به سبحانه وحثنا عليه - صلى الله عليه وسلم - التراحم ومناحي الرحمة وأبوابها واسعة متعددة، وخاصة بين المخلوقين، ومن صورها رحمة الفقراء والمساكين وأهل الحاجة وقضاء حوائج الناس وتفريج الكرب عن المكروبين ومساعدة الضعفاء، ومجتمعنا بحمد الله يزخر بنماذج من المنفقين والباذلين للخر، ولدينا مشروعات خيرية عمت المدن والقرى وتعدت بركتها ونفعها حدود هذه البلاد، ومما منّ الله به على بعض المحسنين إقامة المشروعات الخيرية من بناء مساجد ومشاريع تعليمية وصحية.
وأنني في هذه المناسبة أثني على ما قدّمه بعض رجال الأعمال في تبرّعهم بأجهزة الغسيل لمرضى الفشل الكلوي في عدد من مدن المملكة، وهذا أمر حسن لهم أجر ذلك - إن شاء الله -، ولكن وضع أوقاف لمثل ذلك لكان مردوده أجدى نفعاً ومستمراً كصدقة جارية له ولوالديه وذريته.
والدراسات الاقتصادية الحديثة تشير إلى أن طبيعة المؤسسات الوقفية تجعلها أفضل وأقدر من غيرها في تقديم الخدمات الصحية. وعليه فلابد من إحياء وتنشيط إثارة الوعي لدى أبناء المجتمع بأهمية الوقف في خدمة المجتمع وفائدته في تقديم الخدمات الصحية وغيرها، وإنه سنة يثاب عليها فاعلها في الدنيا والآخرة، وهو صدقة جارية لا ينقطع أجرها بعد موت صاحبها، والاستفادة من وسائل الإعلام والاتصال وخطباء المساجد والدعاة في هذا المجال.
وأنه لابد أن تكون الخدمات الصحية والعلاجية من أولويات الاستثمارات الوقفية، ذلك أنّ الخدمات الصحية تُعدُّ أغلى المعدلات مقارنة بالخدمات الأخرى.
والوقف سلاح استراتيجي في مواجهة نوازل الحياة، وكلما كان العمل أنفع وأصلح للأمة كان عند الله - عز وجل - أفضل. والوقف ثروة الأجيال القادمة في الخدمات الصحية والتعليم والتدريب والابتعاث.
ونذكر في الختام أن الوقف لا يقتصر على الأموات فقط، بل لابد للإنسان الميسور من إيجاد وقفٍ له في حياته يشرف عليه قبل مماته، وعلينا التشجيع على إيجاد وقفٍ في الحياة قبل الممات.