سلمان بن محمد العُمري
رعاية الدولة
يترقّب ويتطلّع الناس إلى الإعلان الرسمي عن تأسيس هيئة مستقلّة للأوقاف لتنظيم أوضاع الأوقاف بالمملكة بشكل أفضل مما هي عليه الآن، وإعطائها الفرصة للعمل على تنميتها وتطويرها اقتصاديًا خدمة للمجتمع وتنفيذًا لوصايا الواقفين، وبالذّات بعد انتهاء تنظيماتها وتشريعاتها من مجلس الشورى.
والدولة - أعزّها الله - بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - حريصة كل الحرص على إحياء رسالة الوقف وزيادة لاستثماراته وغلاله، والإفادة من ذلك في برامج التنمية والأعمال الخيرية في البلاد. وقد حرصت على المحافظة على أصول الأوقاف واستثمارها الاستثمار الأمثل، وصرفها في مصارفها الشرعية حسب شروط واقفيها.
والأوقاف محل العناية والاهتمام من لدن ولاة الأمر منذ عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - الذي عرف بأعمال الخير المختلفة، حيث كانت عناية الملك المؤسس - رحمه الله - بتنظيم الأوقاف في طليعة اهتماماته منذ بدء تأسيس المملكة العربية السعودية وتوحيد أرجائها، فقد كان يكلُ إلى القضاء في كل منطقة مهمة الإشراف على الأوقاف، ومنها الأوقاف على الحرمين الشريفين، كما أعاد تنظيم الأوقاف في الحجاز، فأمر بإنشاء إدارة للأوقاف في مكة المكرمة، وإدارة أخرى في كل من المدينة المنورة وجدة.
وتتابع الاهتمام بالأوقاف ورعايتها وتنظيمها في المملكة حتى أنشئت وزارة الحج والأوقاف عام 1381هـ، وكذلك إنشاء المجلس الأعلى للأوقاف عام 1387هـ؛ ليكون مشرفًا على جميع الأوقاف العامة، ثم خصصت للحج عام 1414هـ وزارة مستقلة، وأنشئت بجانبها وزارة خاصة للشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ولقد كان لبلادنا السبق في هذا المجال، وكان اهتمامها به دائمًا ومستمرًا.
إن اهتمام ولاة الأمر في المملكة وعنايتهم الدائبة بهذا الجانب الشرعي المهم ليس بغريب عليهم إذ إنّ الشيء من معدنه لا يستغرب، فقد جرت عليه هذه الدولة منذ نشأتها في الاهتمام بالجوانب الشرعية الحيوية التي هي أساس من أسس ودعائم بلاد الحرمين الشريفين.
وعلى الرغم من الجهود المبذولة للرقي بالأوقاف وتطويرها وتنميتها إلا أن الأوقاف في المملكة تعاني من مشكلات ومعوقات وأنظمة وتشريعات تحمي الوقف، وتحمي كيانه لتبعث الطمأنينة والثقة في نفوس الواقفين الذين أحجموا عن تسجيل ما لديهم من أوقاف.
إن الأوقاف الإسلامية تراجعت عن أداء دورها الخير في خدمة المجتمع وتنميته بفعل المتغيرات التي تحدث من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، وغياب ثقافة الوقف لا سيّما لدى الأجيال الجديدة من الناشئة والشباب، إلى جانب تحول الموسرين الراغبين في الإنفاق عن فكرة الوقف إلى قنوات أخرى كالصدقات أو التبرّع المباشر لجهة بعينها وكثير ممّن تحولوا عن الوقف إلى غيره من أبواب الإنفاق برروا ذلك بأنهم لا يرون أن بناء المساجد أو الجوامع أو المكتبات يمثل حاجة ماسة للمجتمع، وأن هناك حاجات أكثر أهمية، وأولى في الوقت الراهن، مثل: علاج المرضى أو تشغيل العاطلين أو مواجهة الفكر الضال الذي يروّج له المتطرفون الجاهلون بحقيقة الإسلام السمحة، ومن المعوّقات والإشكال أن نظام مجلس الأوقاف الأعلى مضى على صدوره قرابة خمسين عامًا ولائحة تنظيم الأوقاف الخيرية مضى على إقرارها أكثر من أربعين عاماً.. ولا شك أن الأنظمة القديمة وأمام المستجدّات والمتغيّرات الحديثة في المجتمع تحدث إشكالات وتأخرًا وتعطيلاً للوقف واستثماراته.
مخالفة النظّار
إن الواقع يؤكّد أن بعض الأوقاف الأهلية لا تتحقق بها مقاصد الشريعة، لا لقصور في الأوقاف ذاتها، بل بسبب مخالفة النظَّار القائمين عليها لشروط الواقفين، فينفقون غلة الأوقاف في غير ما أراد الواقف، أو يهملون في صيانة الوقف وتجديده، فيصيبه العطب والخراب، وتندثر أصوله، وتتوقف منافعه، من دون أدنى مساءلة، أو حساب من قبل الجهات القضائية باعتبارها الجهة المسؤولة عن مراقبة أداء نظّار الأوقاف. والمتأمل لكثير من النزاعات حول الأوقاف الأهلية يجد أنها غالباً بين أبناء أو أشقاء صاحب الوقف، الذين ربما وجدوا أنهم لا يستفيدون من هذا الوقف، كما أراد أبوهم أو أخوهم في وقفيته، لأن ناظر الوقف الذي ربما كان أيضًا من العائلة، ويمكن أن يتصرف في غلة الوقف على هواه دون اعتبار لشروط الواقف، بل انحرف بعض النظار بالوقف عن أهله المستحقين له بنص الواقف، بل ربما حرم أولاد الواقف نفسه، وأخذها البعيد من القرابة بغير حق، وإذا كان بعض المستحقين أو المستفيدين من هذا الوقف لجأوا إلى القضاء للحصول على حقوقهم، فإن الكثيرين يخجلون من طرق أبواب المحاكم، ورفع دعاوى قضائية ضد ناظر الوقف حفاظًا على أواصر القربى وصلة الرحم، فقد يكون عمهم أو خالهم أو أخاهم الأكبر هو الناظر، أو بسبب عدم معرفتهم أصلاً بما نصت عليه الوقفية، وترتيب المستفيدين منها! والطامة الكبرى حين يبلغ الناظر من العمر عتيًا، ويصبح غير قادرٍ على إدارة شؤون الأوقاف، ويبدأ أبناؤه بالتصرف بالوقف وكأنه حق مشاع.. وتبقى تلك الأموال في ذمته وأبنائه. وإذا كان الفقهاء قالوا: إن شرط الواقف كنص الشارع، للتدليل على ضرورة الالتزام بشروط الواقفين، وعدم مخالفتها، فإن مراقبة مدى التزام النظار بشروط الواقفين لا يجب أن ينتظر دعوى قضائية يرفعها المتضرر من مخالفة هذه الشروط بعد وقوع الضرر والمخالفة، والأولى أن يحال قبل وقوع الضرر والمخالفة أصلاً، وهذه هي مسؤولية القضاء، لإيجاد آليات دقيقة لمراقبة أداء نظار الأوقاف الأهلية، والوقوف على مدى التزامهم بشروط الواقفين، طالما أنها لا تخالف الشريعة، ومع التطور الذي يشهده تنظيم القضاء في بلادنا في الوقت الحالي، نتطلع إلى الإسراع بإيجاد مثل هذه الآليات حماية لأصول الأوقاف من الاندثار، واحترامًا لشروط الواقفين وحقوق المستفيدين، وكذلك حماية للعلاقات العائلية، حتى لا يجد بعض المستفيدين من الأوقاف نفسه مضطرًا لرفع دعاوى قضائية ضد عمهأو خاله أو أخيه.
تنمية واستثمار
إنه من المؤمل أن يكون في إنشاء هيئة الأوقاف فاتحة طريق لمشروعات وقفيّة عملاقة يطال نفعها الجميع بلا استثناء، وأرضنا المعطاءة مليئة بمجالات الاستثمار للصالح العام والنفع الدائم، ومن الأهمية بمكان أن يكون لمجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع إسهام قوي في وضع التصورات والخطط للنهوض في الأوقاف، وليرسم من جديد برامج التنمية والاستثمار في المجالات الوقفيّة لأن العمل كبير ويحتاج إلى تضافر الجهود ورسم استراتيجيات واضحة المعالم تعطي الثقة للناس في إحياء رسالة الوقف وفق الصورة المأمولة.
إن الوقف في المملكة ثروة اقتصادية كبرى تنتظر التفعيل، وعلى الرغم من عدم وجود إحصاء دقيق يحدّد حجم الأوقاف الخيرية في المملكة لعدم وجود قاعدة بيانات يمكن الرجع عليها إلا أن حجم الأوقاف في المملكة من أضخم الأوقاف بالعالم الإسلامي لكون المملكة تضم بين جنباتها الحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة ومنذ فجر التاريخ الإسلامي إلى وقتنا الحاضر، -والحديث للدكتور خالد المهيدب المتخصص في شؤون الأوقاف- والواقفون يتسابقون على الوقف فيهما خاصة وفي غيرهما بوجه عام.
ويكشف لـ «الجزيرة» من خلال اطلاعه على نشاط مكتب استثمارات المستقبل للوصايا والأوقاف أحد المتخصصين في شؤون الأوقاف أن المكتب لوحده ضبط قرابة أربعمائة وقفية تقدّر قيمة الأصول الموقوفة التي ضبطوها بـ سبعين مليار ريال مما يدل على تنامي حجم الأوقاف الخاصة بالمملكة، بخلاف الأوقاف العامة التي تحت يد (الأوقاف) وتتولى النظارة عليها والتي تقدر أصولها بأكثر من تريليون ريال.
لذا يجب أن تتسارع الخطى لانتشال الأوقاف لما يمثله من جوانب شرعية واقتصادية واجتماعية وإعطاء الناس الثقة فيه، وإحياء رسالة «الوقف» بالمفهوم الشرعي الصحيح، وزيادة استثمار مردوداتها في المملكة.
إن غياب الدراسات العلمية والأبحاث المتخصصة أضاع فرص حقيقية أمام تنمية الأوقاف وتطوير عملية الاستثمار فيها.
ويبيّن رئيس لجنة الأوقاف في الغرفة التجارية الصناعية بمكة المكرمة الشريف علاء الدين شاكر آل غالب أن الدراسات العالمية تقدر مجموع معدل أموال الوقف والتكافل والاستثمارات العائلية في القطاع الخاص بنحو تريليون دولار في دول الخليج، تستحوذ المملكة على ما نسبته نحو 90 في المائة منها. وفيما يتعلق بالحجم الإجمالي للقطاع العامل في الأوقاف، فهناك ما يفوق 5 تريليونات دولار، منها أكثر من تريليوني دولار في المملكة.
ثقافة الوقف
إن أولى خطوات المعالجة والرقي بالأوقاف هي ترسيخ ثقافة الوقف في المجتمع حيث إنها مع الأسف الشديد «غائبة» وفي تاريخنا الإسلامي صور رائعة ودروس مفيدة ساطعة تبين لنا مكانة الوقف وأثره في دعم التنمية والعمل الخيري، وتحقيق نهضة المجتمع المسلم وتقدمه. ويؤكد لنا التاريخ الإسلامي أن الأوقاف قد شملت جميع مناحي الحياة، وأسهمت في خدمة الإنسان في مختلف مجالات التنمية.
لقد صارت الأوقاف مصدرًا تمويليًا للمسلمين عبر القرون المتطاولة، بسبب كثرة الأوقاف، حيث يقول الإمام الشافعي: «بلغني أن أكثر من ثمانين رجلاً من الصحابة من الأنصار وقفوا»، ويقول الرحالة ابن بطوطة: «الأوقاف في دمشق لا تحصر أنواعها ومصارفها لكثرتها».
وأمام المتغيرات في المجتمعات الإسلامية تراجعت الأوقاف بشكل كبير عن أداء دورها المبارك، ومن هنا فنحن بحاجة لتغيير بعض الثقافات السلبية المتعمقة في المجتمع، وفي أحسن الأحوال نجد أن كثيراً ممن يعرفون أهمية الوقف ومكانته في الإسلام، يظنون أنه مقصور على مجالات بعينها، ولا يمتد لغيره من مجالات الخير التي قد تمثل ضرورة للمجتمع المسلم.
فمع الجهود التي يضطلع بها بعض القائمين على المؤسسات والهيئات الخيرية بإقامة أوقاف، إلا أنها محدودة جدًا، وتواجهها عوائق وصعوبات كثيرة، وإذا كنا نتطلع لإحياء سنة الوقف فلا بد من نشر هذه الثقافة، وتعميم التعريف به للناس بنفس درجة الاهتمام بتسهيل إجراءات الوقف وإجازته، وتوفير كل ما يلزم لتنميته واستثماره. فتنمية التعريف بأهمية الوقف هي الخطوة الأولى لتنمية الأوقاف، ولا تتحقق تنمية أموال الوقف بحال من الأحوال قبل تنمية التعريف به، فالإنسان عدو ما جهل، وإذا كان الناس لا يعرفون أهمية الأوقاف، ولا يدركون دورها في التنمية فلا تستغرب عدم تفاعلهم مع ما يُطرح من دعايات للاهتمام به، مما يؤكد أهمية وضع برامج ميسرة للتوعية بأهمية الأوقاف، علمية وإعلامية وخطابية ودعوية حاسوبية.
مسيرة التنمية
إن النتائج العظيمة والثمار الطيبة التي تحقّقت للأمة الإسلامية من الأوقاف في عصور ماضية لجديرةٌ بأن تدفعنا لأن ننظر لهذه السنة نظرة عصرية، تمنح الأوقاف فاعلية ودورًا في دعم مسيرة التنمية ولاسيما في القطاعات التي تتطلب التعاون مع الدولة مثل: التعليم، والصحة، والبطالة، والفقر، وغيرها، وهذه النظرة لا يجب أن تكون بعيدة عن الأنشطة الاستثمارية المشروعة التي يمكن من خلالها تنمية الأوقاف وبالتالي زيادة إسهاماتها في تحقيق التكافل ومضاعفة عدد المستفيدين من ريعها، ولا ينفصل عن ذلك، وكذلك التعريف بثواب الوقف والإنفاق في الإسلام، وتبسيط إجراءات الوقف والتعريف بها على أوسع نطاق، كذلك عرض الضمانات التي تؤكد للواقف أن أموال الوقف تذهب لمستحقيها، فالشفافية والثقة يشكلان معًا الأرض الخصبة التي يمكن أن تزدهر وتحيا فيها سنة الوقف في هذا العصر.
لا شك إن الهيئة العامة للأوقاف إذا سارت وفق خطط وإدارة جادّة نشطة سيتحقق لها نتائج مهمة تعود بالنفع والفائدة للبلاد من النواحي الشرعية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية. ومن خلال ذلك يتحقق الهدف الأسمى وهو تنفيذ شروط الواقفين.
دراسة بحثية
وقد وفقني الله - عز ّوجلّ - بالقيام بدراسة بحثية بعنوان: «ثقافة الوقف في المجتمع السعودي بين التقليد ومتطلبات العصر - رؤية من منظور اجتماعي شرعي» وخرجت بنتائج وتوصيات مهمة للغاية تتعلق بتطوير الأوقاف وسبل تنميته ومجالاته الكثيرة.
وجاءت الدراسة البحثية لتطرح الأوقاف ثقافة استراتيجية جديدة؛ لتحويل الأوقاف إلى مؤسسات تنموية مانحة تخدم المتبرع بالوقف، والمستفيد منه؛ وليكون الوقف أكثر إنتاجًا وفاعلية في المجتمع؛ كما قيل «حتى تحسن اختيار الحاضر فكر في ما تريده في المستقبل»، وهو ما يهدف إلى توسيع مفهوم الوقف لدى عامة الناس، وتغيير ثقافتهم وتصوراتهم عن الوقف؛ لكيلا ينحصر في بعض الأوجه التقليدية، وبيان ما قدمه الوقف قديما، وما يمكن أن يقدمه مستقبلاً في كل مجالات الحياة الاجتماعية للمسلمين.
وقدمت مجموعة من الرؤى والتوصيات والاقتراحات حول الوقف، تصدرها اعتبار الوقف قطاعًا اقتصاديًا ثالثًا موازيًا للقطاعين العام والخاص، والاعتراف بالمشروعات الوقفية باعتبارها مرفقًا خدميًا، بكل ما يترتب على هذا الاعتراف من حماية الدولة لأعيان الأوقاف وأصولها، ومراقبة صرف غلالها، مطالبا أن يكون للإعلام أثر في تغيير ثقافة الناس تجاه الوقف؛ فالإعلام شريك استراتيجي في تنمية وإدارة الوقف؛ ففي عصر الإعلام والاتصال أصبح من الأهمية بمكان استغلال كل قنوات الاتصال والإعلام؛ للتعريف بالوقف واستثماراته، وهذه الشراكة تنبني على وضع خطط وبرامج مشتركة بين الإعلام وإدارات الأوقاف الحكومية والأهلية؛ لإبراز الأعمال الوقفية، وتوفير المعلومات اللازمة عنها، واستغلال الإعلام كذلك لتوعية الجمهور بدور الوقف ووجوب تنوعه في مجالات التنمية عامة وعلى رأسها: الصحة والتعليم.
المرأة والوقف
وشددت الدراسة على أهمية أن تأخذ المرأة دورها في عملية التنمية؛ لأنها السبيل الوحيد لتحسين أوضاعها المعيشية، ومن ضمن ذلك إدارة أوقافها أو أوقاف ذويها؛ حتى لا تستغل أوقافها، أو تتعرض للسرقة مع ضرورة الاستفادة من التجارب الحديثة عند الأمم الأخرى في مجال استثمار الوقف وتنميته والاستفادة منه بشكل أمثل؛ مما يعود بنفعه أكثر على الواقف والمستفيد من الوقف، كما يجب أن يكون لإدارات الأوقاف الحكومية والأهلية دور كبير ملموس على الأرض في توعية الواقفين أو المتبرعين بالوقف على الأمور المهمة التي يحتاجها أبناء المجتمع السعودي، وبيان الأولويات بينها، فالأهم يقدم على المهم، والمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، لافتة إلى أن بعض المؤسسات الخيرية قد اقتصرت في إدارة أوقافها على بعض المشايخ الشرعيين، مع إهمال مشاركة أهل الخبرة والاختصاص من الاقتصاديين وعلماء النفس والاجتماع، فهؤلاء يستفاد منهم في إدارة الأوقاف واستثمارها استثمارًا صحيحًا، وصرفها حسب الأولويات واحتياج المجتمع.
واعتبرت الدراسة أن الكثير من التوصيات التي تخرج بها المؤتمرات، والندوات، والملتقيات، لا تجد طريقًا للتنفيذ على أرض الواقع، مشددًا في هذا السياق على ضرورة إقرار رؤية شاملة تعتمد العلم في التشجيع على الوقف لأبواب البر والإحسان التي تمثل حاجة ضرورية للناس، وحماية أصول الأوقاف من العبث، والتعدي، والإهدار، واستثمارها لزيادة غلتها، ومضاعفة أعداد المستفيدين منها، وسرعة الفصل في النزاعات عليها، وبدون هذه المنهجية العلمية الواقعية تبقى أي توصيات، وأي جهود قاصرة عن تحقيق الهدف المنشود في إحياء هذه السنة العظيمة.
ولتحقيق هذه الأهداف اقترحت الدراسة إنشاء شركات متخصصة في إدارة الأوقاف، كحل جذري لمشكلة إدارة الأوقاف والتي يفكر الكثيرون في إقامتها قبل مماتهم، ويكون هناك عقد بين الواقف والشركة؛ بحيث تشترط مع الواقف خصم جزء من إيرادات الوقف لصالح الشركة يدخل ضمن إيراداتها ثم تقوم الشركة باستثمار هذه الإيرادات والمتحصلات لزيادة أرباح الشركة وتقوية مركزها المالي، وفي حال أفلست الشركة لا تدخل هذه الأوقاف في أملاك الشركة التي تتم تصفيتها أو بيعها، وإنما الذي يباع ويصفى هو الشركة نفسها، كما يمكن لشركة أخرى أن تشتريها وتقوم بإدارة هذه الأوقاف من جديد، وإعفاء المشروعات الوقفية الاستثمارية من الالتزامات المالية العامة.
مشروعات وقفيّة
وأوصت الدراسة باستقطاب أوقاف جديدة لما يجدّ من احتياجات المجتمعات العربية والإسلامية، والتعامل مع الأعيان الموقوفة على أساس من الخصوصية الشرعية التي لا تسمح بتملكها بالتقادم، وإدارة المشروعات الوقفية على أسس تجارية تنموية خيرية، وطرح مشروعات وقفية متعددة تلبي حاجات المجتمعات، وتفتح المجال أمام الراغب في وقف ما يظن أنه الأنسب، وإلغاء أسلوب تحكير الوقف، واستبدال صيغ استثمارية جديدة به أكثر تنمية لريعه.
ودعت إلى ضرورة تجميع الأوقاف الصغيرة المتماثلة أو المتقاربة في شروط الواقفين والتي أوشكت على الاندثار؛ لقلة غلتها، أو انعدام الحاجة إليها في كيانات وقفية أكبر يتم وقفها على ذمة الواقفين الأصليين، وإقامة الأوقاف المشتركة عن طريق الصناديق النقدية الوقفية. وللمحافظة على الأوقاف من السرقة والاختلاس، مع أهمية أن يراعي الواقفون تجاه نظار الوقف حسن اختيار ناظر الوقف وأهليته؛ فاختيار الناظر يرتبط ارتباطًا وثيقًا بدوام الوقف والانتفاع به، وإن سوء اختيار الناظر له علاقة كبيرة بضياع الأوقاف، والأسلوب القديم المعتمد على نظارة الذرية تسبب في ضياع كثير من أموال الوقف نتيجة تصرفات غير حكيمة أو أمينة من الناظر، وضبط تصرفات النظار ومحاسبتهم قبل مباشرتهم العمل في الوقف وأثناء مباشرتهم، وبعد ذلك تكون لهم محاسبة عامة على تصرفاتهم بعد وقوعها.
وجاء في التوصيات والاقتراحات الخاصة بالعناية بالأوقاف الإشارة إلى أن البعض يعتقدون أن كمال الأجر محصور في بناء المساجد من دون صيانتها وترميمها، فلا مانع عند بعض الناس أن يخصصوا مبلغًا كبيرًا لبناء مسجد؛ لكنهم يمتنع عن إنفاق هذه الأموال في صيانتها وتأثيثها، وهذا خلل في الفهم؛ ذلك أن صيانة المساجد عندنا في المملكة أنفع وأحرى؛ فنجد بعض المساجد بحاجة إلى سباكة وكهرباء وأثاث نظيف، وللتغلب على هذه المشكلة يستحسن تخصيص جزء من أموال الوقف على المساجد للصيانة والترميم والتأثيث، ويجب على القائمين في إدارات الأوقاف الأهلية والخاصة والحكومية حث الواقفين على ذلك.
الاستثمارات الوقفية
وأكدت التوصيات على أهمية أن تحظى المؤسسات التعليمية بالعناية كما يحظى الوقف على الفقراء والمساكين والمساجد وجهات البر الأخرى، حيث إنه ليس للأوقاف الموجودة اليوم دور ملموس في تعليم وتدريب وتأهيل أبناء المجتمع، وأن تكون الخدمات الصحية والعلاجية من أولويات الاستثمارات الوقفية؛ ذلك أن الخدمات الصحية تعد أغلى أنواع الخدمات تكلفة حيث يبلغ حجم الإنفاق العالمي على الخدمات الصحية أعلى المعدلات مقارنة بالخدمات الأخرى، فجهاز غسيل الفشل الكلوي تقدر تكلفته بأكثر من مليون ومائة ألف ريال سعودي.وأهابت الدراسة البحثية الجهات المختصة بالأوقاف أن تجمع الوثائق التي تمتلكها في مكان واحد؛ ليتسنى للباحثين الاطلاع عليها، كما أوصى بتحفيز الجامعات على أن تدرج في خططها الدراسية مفردات تعنى بالوقف وتاريخه ومفاهيمه، وأثره في تشييد الحضارة الإسلامية، وأهميته في دعم مسيرة التنمية، ومساندته الجهود الرسمية في عملية البناء والتطوير للمؤسسات الاجتماعية والصحية والتعليمية والاقتصادية، وحث الجامعات ومراكز البحوث على تشجيع طلاب الدراسات العليا والباحثين على إعداد دراسات علمية عن الوقف في تاريخ الحضارة الإسلامية، وتوجيه طلاب الجامعات والمدارس إلى ارتياد المكتبات الوقفية، والإفادة من كنوزها المخطوطة والمطبوعة عن طريق البحوث الفصلية الجامعية، والواجبات المدرسية، ودعوة العلماء والمفكرين إلى الاهتمام بالوقف على الكتب والمكتبات، وبيان آثاره الحسنة على المجتمع، وعقد المزيد من الندوات واللقاءات العلمية التي تعنى بشؤون الأوقاف، مبينا أن للوقف دورًا كبيرًا في محاربة البطالة بشرط أن يستثمر استثمارًا صحيحًا وفق متطلبات المجتمع العصري؛ فالبطالة تمثل مشكلة حقيقية تؤرق الأفراد والحكومات في عصرنا الحالي، وتأخذ أبعادًا اجتماعية وسياسية واقتصادية خطيرة.وشددت الدراسة - في ختام التوصيات - على أهمية أن يعي جمهور الواقفين أن الوقف ثروة الأجيال القادمة في الخدمات الصحية والتعليم والتدريب والابتعاث، وأن الوقف سلاح استراتيجي في مواجهة نوازل الحياة، وكلما كان العمل أنفع وأصلح للأمة كان عند الله - عزّ وجلّ - أفضل، وأن الوقف لا يقتصر على الأموات فقط، بل لا بد للإنسان الميسور من إيجاد وقف له في حياته يشرف عليه قبل مماته، وعلينا التشجيع على إيجاد وقف في الحياة قبل الممات.