عبدالعزيز السماري
تصل الأمم إلى حافة الكارثة عندما تتعامل مع المشكلات الكبرى من خلال نصف الحقيقة أو نصف الحل، أو من خلال بوابة الهروب من مواجهتها، أو التعامل معها كأنها لم تكن موجودة، ثم الانتظار خارج الزمن حتى يقع الفأس في الرأس، وعندها تختفي الحلول ثم تظهر الحقيقة في كامل هيئتها، تحدث حالة الاستسلام أمام هول المفاجأة، ويتحول الزمن إلى آلة حادة وقاتلة.
كان التعامل مع وباء الكورونا في البدء من خلال اللا حقيقة، فكان نفي العلاقة مع الإبل كارثياً، وله جذور في ثقافة النفي المحلية، والتي قد تنجح في بعض الأمور السياسية، لكن في الصحة العامة والاقتصاد لا تجدي، فالزمن كفيل بإظهارها، وعندما تُغيب الحقيقة، تختفي الحلول، ولذلك استمرت الإبل في سياحتها الداخلية بدون قيود، واستمرت معارض شرب حليبها على الطرقات العامة، ولم تتوقف دعوات شرب بول البعير كمشروب للطاقة والصحة في منتديات الوعظ، وكانت النتيجة استمرار الوباء.
في وجه آخر لأزمة نصف الحقيقة ونصف الحل، يلوح في الأفق مستقبلاً غير صحي للاقتصاد الوطني، فقد وصلت أسعار النفط إلى مستويات متدينة ومرشحة لنزول أكثر، وربما جاء الوقت الذي قد نندم فيه على ضياع الفرص المتوالية لوضع بدائل اقتصادية عن النفط، وكان التعامل معها أيضاً من خلال نصف الحقيقة، ولذلك غاب الحل، وكان البديل ترديد عبارة « الاقتصاد الوطني متين «، ولن يتأثر بتقلبات الاقتصاد العالمي، لكن يبدو أننا وصلنا إلى مرحلة خروج الحقيقة الكاملة بدون تأثيرات، فالأرقام في حد ذاتها حقيقة لا يمكن إخفاؤها، والمستقبل يخبرنا أن النفط ربما لن يعود إلى أسعاره العالية، وفي لحظة غياب الحل في أمسّ الأوقات إليها، سنكتشف متأخرين أنّ تغييب بعض الحقيقة جزء من غياب الحل.
كان التعامل مع الإرهاب الديني من خلال مرجعية « الابن الضال «، وأنهم، أي الأبناء الضالون، سيعودون إلى العقل من خلال النصح والوعظ، ولذلك تم التعامل معهم مثل المراهقين الذين تاهوا عن جادة الطريق، لكن في الكبر يعودون إلى المنهج الصحيح، لكن ذلك لم يحدث، فقد أصبحوا يهددون الأمن الاجتماعي، من خلال إشهار التكفير والقتل والتفجير، وكان غياب الحقيقة أو التعامل معه من خلال نصف الحقيقة هو بيت القصيد، فما يحدث منهم ليس جديداً على مجتمعنا وتراثنا، فالسياسة في الدول التي تحكم من خلال الدين يتم تفجيرها من خلاله، وهكذا..
لذلك كان إعادة إنتاج التكفير من ثقافتنا وتراثنا الماضوي، وكان الخطأ في الاستمرار في استئناس هذا الفكر أو العودة إليه بعد غياب، فقد كان الموقف منه حازماً بعد توحيد الوطن، لكنه عاد إلى الواجهة من خلال القرار الرسمي، وتناسوا أنه سلاح ذو حدين، وأنه أشهر وأمضى سلاح للانتقام والغدر بالأوطان في تاريخ المسلمين، لذلك كان تغييب الحلول المدنية والإصلاحية، والاكتفاء بنصف الحل محاولة غير مجدية في مواجهته، وكان من آثارها تحوّل المجتمع إلى ساحة حوار صاخب عن الحلال والحرام وعن المسلمين والكفار.
في المجمل لم تكن الحلول غائبة، فالعقل السياسي كان ولازال يدرك على سبيل المثال خطورة الفساد المالي والإداري على مستقبل واستقرار الوطن، ولذلك كان الاستثمار في ثقافة النزاهة مشروعاً وطنياَ، وكان قرار تشكيل هيئة نزاهة للتحقيق وتشخيص حالات الفساد خطوة صحيحة، لكنها كانت أيضاً مصابة بحالة نصف الحقيقة، فالفساد المالي ظاهرة كبرى في بعض الأنشطة الاقتصادية، وتتجاوز كثيراً صلاحيات رئيس الهيئة، ولهذا غاب النصف الآخر للحقيقة في تقارير « نزاهة «، وما تم إعلانه عن حالات الفساد كان هامشياً في الصورة الكبرى للفساد المالي، ولهذا السبب أيضاً غابت الحلول، ولم يخرج حتى أنصافها للقضاء على هذه الظاهرة العدوانية ضد مستقبل الوطن الغالي.
وطني الغالي عندما أكتب عنك بحروف حبرها الألم والخوف، فأعلم أنني من أشد المؤمنين بوحدتك ترابك وبتاريخك وبثقافتك العظيمة، وأعلم أنني سأكون أول الخاسرين عندما تتألم يوماً من غدر أبنائك أو إرهابهم أو فسادهم، وأعلم أنني سأكون بجانبك مهما كلف الأمر، وسأحارب من أجلك بالدم، وبكل ما أملك من جهد ومال، فأنت مستقبلي وحلم أبنائي، وأنت البيت الدافئ، الذي بخرابه سأكون في العراء، أبحث عن مأوى بديل، ولن أجد مهما تغربت، ومهما امتلكت من أموال طائلة، لذلك لا تكتفي بأنصاف الحقيقة أو أنصاف الحلول، فالوقت كالسيف، إذا لم تقطعه قطعك، والله على ما أقول شهيد..، حماك الله يا وطني العزيز..