اهتم فلاسفة الصين - كغيرهم من الفلاسفة - بموضوع (فهم الكون وتفسير العالم) وغيره من المسائل والموضوعات والميادين الأساسية في الفلسفة، ولكنهم اختلفوا عن كثير من فلاسفة الشعوب الأخرى، في أن فهم الوجود والشرح الفلسفي للعالم لم يكن في مقدمة أهدافهم الرئيسية الأولى،
بل كان الهدف الرئيسي للفلسفة الصينية هو (الارتقاء بالإِنسان) قبل أي شيء آخر، والعمل وبذل الجهود لجعله عظيما.
ورغم اشتراك الفلسفات الصينية المتعددة في هذا الهدف الكبير، أي في جعل الإِنسان عظيما كفرد، وبالتالي جعل الناس عظماء كمجموعات.. رغم اشتراك فلاسفة الصين في هذا القاسم المشترك، إلا أنهم اختلفوا كثيراً في تحديد مصادر هذه العظمة الإِنسانية، أي في الإجابة عن هذا السؤال: كيف يكون الإِنسان عظيماً؟!.
فجاءت إجابة الفلسفة الطاوية أو «التاوية»، بأن المصدر الأساسي لهذه العظمة يكمن - حسب الترجمة الحرفية من مصادر صينية - في التوحّد مع النهج الداخلي للكون.. وهذا معناه - في فهمي - قدرة الإِنسان على الاندماج والانسجام مع كونه الذي يعيش فيه، أي أن يستقر ويبدع ويعمل وفق فهمه لمكانه وقيمته وإمكاناته ودوره في هذه الحياة.
أما الفلسفة الكونفوشية، فترى أن مصدر تلك العظمة الإِنسانية يوجد في فكرة (تطوير الإِنسانية) عبر الارتباط بالمشاعر الإِنسانية الجميلة المشتركة، والالتزام بالفضائل والقيم الاجتماعية النبيلة.
وأفهمُ من ذلك أن الإِنسان يكون عظيماً في نظر هذه الفلسفة، حين يعمل بقناعة في سبيل النهوض بالإِنسانية، بتمسكه أولا بالأخلاق الحميدة والمبادئ الفاضلة، ثم دعوة الآخرين إلى ذلك. وجاء موقف (الكونفوشية الجديدة) - المتأثرة بالبوذية الصينية - شاملا للموقفين السابقين وجامعاً بينهما، فمصدر العظمة الإِنسانية عندهم هو التوحد مع نهج الكون من ناحية كما قال الطاويون، والعمل لتطوير الإِنسانية كما يرى الكونفوشيون من الناحية الثانية.
وتؤكد الفلسفة الصينية - في صورتها العامة - على أن العقل ليس مستقلا عن بقية مكونات الإِنسان، أو لنقل: تؤكد على أن العقل لا يعمل بمعزل عن أجزاء الجسد، فروح الإِنسان وعقله مرتبطان بمادته ارتباطاً وثيقاً، فالإِنسان روح ومادة في آن واحد.. والعالم في هذه الفلسفة ليس جوهراً في حد ذاته، بل شبكة من العلاقات المتصلة بين الكل والأجزاء، دون أن يعلو أحدها على الآخر.
وإذا سلطنا الضوء الفلسفي على الناحية السياسية، فسنلاحظ بوضوح أن اتساع الرقعة الجغرافية لبلاد الصين وارتباطهم بالأساطير القديمة اظهر نظاماً سياسيا خاصاً بهم، ذا صبغة عمومية، تميّز بكثير من الارتباطات الميثولوجية.. ويتجلى الكثير من ذلك في كلمة (إمبراطور)، والإمبراطور في الصين قديماً: هو الذي يملك المساحات الكبيرة من الأراضي بناء على اقتناع الشعب أنه يستحق السلطة بتوجيهات من الإله، أي أنه اكتسب شرعيته بتعيين إلهي.
وأستطيع أن أقرّب الصورة المشكّلة من القناعات الميثولوجية والعقائدية بهذا المثال: الإله الأعلى عندهم، بصفته رباً يدير الكون كله كأنما عيَّن هذا الإمبراطور كوكيل له في بلاد الصين، يدبّر ويدير أمورهم بتوجيهات منه.
وإذا أدرنا دفة الحديث باتجاه الصعيد الاقتصادي في بلاد الصين القديمة تحديداً، فسنجد أن كثيراً من الباحثين اتفقوا على أن اللمحة العامة لنمط ذلك الاقتصاد ترتبط بالإقطاعية، أي أن نظامهم نظام اقتصادي إقطاعي إنتاجي، وتأتي المحاصيل الزراعية والصناعات المنزلية على قائمة تلك المنتجات، فغالب الشعب كانوا من الفلاحين، ومن الذين يصنعون مصنوعات بدائية متنوعة في منازلهم.
ومن أبرز أسباب ظهور التوجّه الإقطاعي لديهم - فيما ظهر لي - أن مفهومهم للإمبراطور الموكّل من الإله، يجعل جميع الأراضي ملك الإمبراطورية فعلياً، باقتناع وتسليم شعبيين، فالفلاح الصيني مثلا - في بعض الأزمنة القديمة - يختار الأرض التي يريد زراعتها بصفته منتجاً للمحاصيل فقط، أي أنه لا يختار أرضه كمالك لها. ومن المهم أن نشير إلى أن الزراعة كانت الأساس الأول لاقتصاد الدولة الصينية القديمة.
أما الناحية الاجتماعية عندهم، فقد كانتْ الأسرة هي الأساس، وكان نظامها هو الأهم بين الأنظمة الاجتماعية، وتشير الدراسات إلى أن ارتباط أفراد الأسرة ببعضهم يمتد حتى الموت وما بعده، فالملوك مثلا - وغيرهم أحياناً - كانوا يقدّمون الأضاحي والقرابين لأجدادهم بعد موتهم، بنفس الطريقة التي يقدمونها للآلهة وللأرض حسب معتقدات وطقوس متعددة.
وقد تأثر المجتمع الصيني القديم بسيطرة النظام «الإقطاعي»، خصوصاً في مهنتهم الرئيسية الزراعة، وهذا ما تسبب في وقوع الفلاحين وغيرهم من أصحاب المهن تحت مظلة شبيهة بمظلة (النقابات) الحديثة المعروفة اليوم، حيث يختارون لهم رئيساً أو زعيماً يدافع عن حقولهم وحقوقهم المختلفة، التي تتعرض للانتهاك بسبب الإقطاعية. ولا نستطيع هنا أن نتجاهل وجود «النظام الطبقي» في تلك المجتمعات الصينية الموغلة في القدم، وهذا ما يؤكده كثيرون، أبرزهم - مثلا - المشرّع الصيني (جو) الذي شرح في وثيقته الدستورية فكرة التقسيم الطبقي عندهم، وزبدة ذلك الشرح - في فهمي - هو أن الإمبراطور يأتي في المقدمة بالتأكيد، لأنه استمدَّ سلطته من توكيلٍ إلهي، فهو يحكم نيابة عن الخالق.
ثم يأتي بعد ذلك الأعيان ووجهاء المجتمع الذين نال بعضهم هذه المكانة العالية بحكم المولد والنسب، ونالها بعضهم الآخر بحكم التربية والمبادئ الفاضلة وغيرها، وهؤلاء هم الذين يديرون شؤون الدولة الكبرى.
ثم يأتي بقية الشعب في ذيل القائمة - رغم أنهم الأكثر عدداً - وهم أصحاب المهن المختلفة، وغالبهم يعمل في مهنتي الزراعة والتصنيع المنزلي، ولهم بعض الحقوق المدنية، إلا أن رأيهم لا قيمة له في شؤون الدولة.
أما المرأة فكان دورها ضعيفاً في المجتمع مقارنة بدور الرجل، وكانت العلاقات بين الجنسين منظمة بقوانين محددة، إلا أن شيئا من الانحلال كان موجوداً أيضاً، فالفجور منتشر، والحشمة والعفة ليست على وجه جيد عند الصينيين في تلك الحقب.
وعلى الصعيدين الفكري والثقافي: كانت المذاهب الأساسية المنتشرة هي الكونفوشية والطاوية، مع وجود الديانة البوذية التي جاءت من الهند، والمانوية التي جاءت من الفرس، والتي تعتبر امتداداً للزرادشتية كما هو معلوم. بالإضافة إلى أربع مدارس فلسفية أخرى أقل شأناً من الكونفوشية والطاوية، وسنعرّج عليها في خاتمة الجزء الثالث الأخير من هذه السلسلة.
ومن المهم أن نعرف أن العلوم ارتبطت بالفلسفة والميثولوجيا ارتباطاً وثيقاً، فالطب مثلا اهتم كثيراً بالنظريات السائدة، التي كانت ترسم البناء الطبيعي من خلال مكونات خمسة هي النار والماء والخشب والمعادن والتراب، ومن هنا كان الطب الصيني يؤكد على ارتباط الإِنسان بالطبيعة، فهو جزء منها، ويؤدي انسجامه معها إلى الصحة والعكس صحيح، أي أن عدم تناغمه مع الطبيعة يسبب له الأمراض.
وكذلك علم الفلك مثلا، فقد ارتبط بالأساطير والخرافات السائدة، خاصة حول الموضوعات الفلسفية البارزة، كقصة الخلق والوجود وغيرها، مما أدَّى بعلماء الفلك إلى تسخير كلِّ أدواتهم ووسائلهم الفلكية في سبيل تأكيد وإثبات قناعاتهم وتصوراتهم الميثولوجية والعقائدية المختلفة.
وكذلك الكتابة والفنون المتعددة أيضاً، فقد اهتم الفنانون - باختلاف فنونهم - بالموضوعات الماورائية من جهة، وبالموضوعات الوجودية الطبيعانية من جهة أخرى، مع ضرورة الانتباه إلى أن اهتمامهم بالطبيعة وارتباط الإِنسان بها في واقعه المعاش، كان أكثر من اهتمامهم بالتصورات الماورائية، وهذه سمة عامة لفلسفة الصين القديمة كما أوضحنا في بداية حديثنا، فهم يهتمون بالإِنسان وواقعه وكل ما يحيط به في حياته، أكثر من اهتمامهم بالغيبيات وما شابه.
كما أن فلاسفة الصين لم يهتموا - فيما يظهر - بالمعرفة كنظرية أو كغاية لذاتها، بقدر اهتمامهم بتحليل علاقة هذه النظرية بالأفعال المعرفيّة، أي بالتطبيق. ويتجلّى اهتمامهم هذا في منحيين واضحين، أولهما الاهتمام السياسي بإدارة شؤون العالم وفق الرؤى الإِنسانية لا وفق أي عقل آخر خارج الكون والعالم.. وثانيهما الاهتمام بالإبداع الإِنساني، خصوصاً الفني، على المستويين الفردي والجماعي. والخلاصة هي أنه لا قيمة - عندهم - للخطاب المعرفي النظري إلا إذا كان ملامساً لواقع البشر، أي إذا كان مطبَّقاً ومؤثراً بشكل مباشر في الحياة بكل ما فيها، خصوصاً على الصعيدين السياسي والاجتماعي، وعلى الأعمال الإبداعية أيضاً، التي يوليها الصينيون اهتماماً بالغاً. ومسك ختام هذا الجزء هو التأكيد على النقطة التي تظهر دائماً، وهي أن الفلسفة الصينية بشكلها العام الشامل لغالب مدارسها مرتبطة جداً من حيث الأساس بالواقع الاجتماعي، وأنها دائماً تهتم به وتجتهد من أجله؛ بالإضافة إلى أنها أقرب للفكر الفلسفي المجرد من كثير من الفلسفات الأخرى، فالصين هي مهد أقدم الفلسفات الإِنسانية اللادينية منذ آلاف السنين، ويرجع بعض الباحثين تلك البدايات إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، حيث تظهر بدايات ذلك التفلسف الصيني الإِنساني المجرّد، في كتب قديمة أبرزها كتاب معروف عنوانه «التغيرات»، وقد ترجم مؤخراً إلى العربية، وهو منهلٌ من أعذب مناهل الفكر الصيني القديم، وله - عند كثير من الصينيين - مكانة مقاربة لمكانة الإنجيل في التراث المسيحي، والقرآن الكريم في تراثنا الإسلامي.
والفقرة السابقة لا تعني غياب دور الآلهة عن حياتهم، بل على العكس تماماً، كما سنعلم في الجزء التالي في مقالة السبت القادم.
- وائل القاسم