أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه في (كتاب التوبة): ((حدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ: حَدّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: عَنْ أَبِي صَالِحٍ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنّهُ قَالَ: قَالَ الله عَزّ وَجَلّ:
أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي، وَاللَّـهِ لَـلّْهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالَّتَهُ بِالْفَلاَةِ، وَمَنْ تَقَرّبَ إِلَيّ شِبْراً تَقَرّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً، وَمَنْ تَقَرّبَ إِلَيّ ذِرَاعاً تَقَرّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً، وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيَّ يَمْشِي أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ)).
قال أبو عبدالرحمن: ههنا وقْفات:
الوقفة الأولى: لا شك في صحة الحديث الأول الذي بدايته: ((قال الله عزَّ وجَلَّ))، ونهايته: ((ضالَّتَه بفلاة)).. ولا شك في صِحَّةِالحديث الثاني الذي أوَّله ((ومَنْ تَقَرَّب))، وآخره: ((أقْبلْتُ إليه أُهَرْول))؛ وإنما الْـمُهِمُّ ارتباطُ الحديثين في سياقٍ واحدٍ مِن حيث يكون الحديث الثاني تفسيراً وتعليلاً للحديث الأول؛ وهذا ما يستدعي مني وقْفَةً مُتأنِّيةً مستوعِبةً إنْ شاء الله تعالى؛ فأما الحديث الأوَّل: فقد ورد بهذا السياق عند عثمانَ بنِ أبي شيبة.. قال مسلم في صحيحه: ((حدّثنا عُثْمَانَ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ - واللّفْظُ لِعُثْمَانَ -.. (قَالَ إِسْحقُ: أَخْبَرَنَا.. وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ): عَن الأَعْمَشِ: عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ: عَنِ الْحَارِثِ ابْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىَ عَبْدِ اللّهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ؛ فَحَدّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ: حَدِيثاً عَنْ نَفْسِهِ، وَحَدِيثاً عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم.. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: لَـلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرابُهُ؛ فَنَامَ، فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ؛ فَطَلَبَهَا حَتّىَ أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ، ثُمّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَىَ مَكَانِيَ الّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتّىَ أَمُوتَ؛ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَىَ سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ؛ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعامُهُ وَشَرَابُهُ؛ فَاللّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ.. وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ آدَمَ: عَنْ قُطْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَقَالَ: مِنْ رَجُلٍ بِدَاوِيَّةٍ مِنَ الأَرْضِ.. وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ: حَدّثَنَا الأَعمَشُ: حَدّثَنَا عُمَارَةُ ابْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيدٍ قَالَ: فحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالآَخَرُ عَنْ نَفْسِهِ؛ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليهسلم: لَـلَّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْـمُؤْمِنِ.. بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ.. حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا أَبُو يُونُسَ: عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: خَطَبَ النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ [رضي الله عنه]؛ فَقَالَ: لَلَّـهُ أَشَدّ فَرَحَاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ حَمَلَ زَادَهُ وَمَزَادَهُ عَلَى بَعِيرٍ، ثُمّ سَارَ حَتّى كَانَ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ؛ فأَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ [يعني في القيلولة]؛ فَنَزَلَ؛ فَقَالَ: تحْتَ شَجَرَةٍ؛ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ؛ وَانْسَلَّ بَعِيرُهُ؛ فَاسْتَيْقَظَ؛ فَسَعَى شَرْقاً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً؛ ثُمّ سَعَىَ شَرْقاً ثَانِياً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً، ثُمّ سَعَى شَرْقَاً ثَالِثاً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً؛ فَأَقْبَلَ حَتّى أَتَى مَكَانَهُ الّذِي قَالَ فِيهِ؛ فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعِدٌ إِذْ جَاءَهُ بَعِيْرُهُ يَمْشِي حَتّى وَضَعَ خِطَامَهُ فِي يَدِهِ؛ فَلَـلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ مِنْ هَذَا حِينَ وَجَدَ بَعِيرَهُ عَلَى حَالِهِ.. قَالَ سِمَاكٌ: فَزَعَمَ الشّعْبِيّ: أَنّ النّعْمَانَ [رضي الله عنه] رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَأَمّا أَنَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ.. حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ، وَ جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ جَعْفَرٌ: حَدّثَنَا.. وَقَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا) عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ: عَنْ إِيَادٍ: عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ [رضي الله عنه] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم:كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ؛ تَـجُرُّ زِمَامَهَا بِأَرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلاَ شَرَابٌ وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرابٌ؛ فَطَلَبَهَا حَتّى شَقَّ عَلَيْهِ، ثُمّ مَرّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ؛ فَتَعَلّقَّ زِمَامُهَا فَوَجَدَهَا مُتَعَلّقَةً بِهِ.. قُلْنَا: شَدِيداً: يَا رَسُولَ اللّهِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَمَا وَاللَّـهِ لَلَّـهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنَ الرّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ.. قَالَ جَعْفَرٌ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ إِيَادٍ: عَنْ أَبِيهِ: حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ، وَ زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا عُمْرُ بْنُ يُونُسَ: حَدّثَنَا عِْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ عَمّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: لَـلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَىَ رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ؛ فَأَيِسَ مِنْهَا؛ فَأَتَى شَجَرَةً؛ فَاضْطَجَعَ فِي ظِلّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ؛ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ؛ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمّ قَالَ مِنْ شِدّةِ الْفَرَحِ: اللّهُمّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبّكَ.. أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ.. حدّثنا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ: حَدّثَنَا هَمّْامٌ: حَدّثَنَا قُتَادَةُ: عَنْ أَنْسِ بْنِ مَالِكٍ [رضي الله عنه]: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَـلَّهُ أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ عَلَىَ بَعِيرِهِ قَدْ أَضَلَّهُ بِأَرْضِ فَلاَةٍ.. وحدَّثنيهِ أَحْمَدُ الدّارِمُيُّ: حَدّثَنَا حَبّانُ: حَدّثَنَا هَمَّامٌ: حَدّثَنَا قَتَادَةُ: حَدّثَنَا أَنْسُ بْنُ مَالِكٍ: عَنِ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
قال أبو عبدالرحمن: مَتْنُ الحديث ههنا مُضْطَرِبٌ جِدّْاً اضطراباً شديداً كثيراً، والاضطراب الشديدُ الكثير يُسْقِطُ الْحُكْمَ بصحةِ الحديثِ منسوباً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا بُّدَ مِن تدقيقٍ، واستيعابٍ لِلنَّظر؛ فإنْ وُجِدَ أنَّ مَتْناً مِن تلك الْـمُتُونِ صحيحُ الثبوتِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُجَرَّداً مِن الارتباط بتلك المُتونِ الْـمُضْطَرِبةِ: (فإنَّ بقيةَ المتونِ تَصَرُّفٌ اجتهاديٌّ من الرواة)؛ وهذا هو ما صَحَّ في تحقيقي.. إلا أنَّ القارِئَ جريدةً يوميةً كجريدَتي (جَرِيدةُ الجزيرة) مُرْتبطُ الفكرِ والذاكرةِ بركامِ أخبارٍ يوميةٍ وتحليلاتٍ وأحكامٍ يريد أنْ يفهمها ويستوعبها، ولا يَتَحَمَّلُ صبْرُهُ تخريجاتٍ طويلةً يُخَلِّص إضافةَ كلِّ راوٍ من الرواةِ؛ لهذا فسأقْتَصِرُ على بيانِ معنى كلِّ مُفْرَدَةٍ مِن المَتْنِ الصحيح، وبيانِ معاني مفرداتِ المتن الآخر الصحيح الذي هو تفسيرٌ وتعليلٌ للنص الآخر، وادَّخِرُ تخليصَ إضافةِ كل راوٍ بَعْدَ استيعاب رواياتِ كلِّ المتون.. أَدَّخِرُ ذلك لِلْمُجَلَّدِ المُخَصَّصِ لذلك ضِمْنَ موسوعتي الكبيرة بعنوان (الأعمالُ الكاملة)؛ وهو الآن في الَّلمَساتِ الأخيرةِ لدى زُملائي ترتيباً وتصحيحاً وطباعةً على الحجمِ الكبير جداً على نحوِ إصداراتِ الهيئة العامة لِلْكِتابِ في القاهرة، وإصدارات مركز الملك فيصل رحمه الله تعالى، ومن ضمنها تحقيقاتٌ للدكتور عبدالعزيز المانع حفظه الله، وتحقيقاتُ صادرة عن كرسيِّه.. وتقديرُ متانةِ المُجَلَّدِ الواحد ثمانُمِئَةِ صفحة في أربعمئة ورقة.
والوقفة الثالثة: أنَّ نُفاةِ المجازِ في كلام الله يعتمدون على شُبْهَةٍ شنيعَةٍ جداً؛ وهي أنَّ المَجازَ يعني الإخبارَ عن الحقائق الواقعيَّةِ بغير ما يَدُلَّ عليها مِن مُفْرداتٍ أو جُمَلٍ لغوية أونحوية أو أدبية بلاغية لا تَدُلُّ على الحقائق الواقعية؛ وذلك كذِبٌ يُنزَّه عنه كلامُ اللهِ المعصوم.
قال أبو عبدالرحمن ما مَضَى شُبْهَةُ صِيْغَ بها معنى المجازِ بغيرِ معناه الحقيقِي.. ومعنى المجازِ الصحيح: ((أنَّه إخبارٌ عن الحقائق الواقعية بأسلوبِ لغةِ العربِ التي مِن أوْسعِ أوْجَهِ نُمُوِّها المجازُ؛ وهو إخبارٌ عن الحقائق الواقعيةِ بمفرداتٍ وجُمَلٍ تحسينية جماليةٍ تَوَسُّعِيةٍ.. كما أنَّ المجازَ ضرورةٌ لا مَحِيْدَ عنها في كلام الله؛ لأن ما ورد مجازاً في كتابِ الله لو حُمِلَ على حقيقتِه: لكان محالاً شرعاً، أو مُحالاً واقعاً.. مثالُ ذلك ما أخبر الله عنه مِن قولِ إخوة يوسف عليه وعليهم سلام الله وبركاته: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [سورة يوسف/ 82]؛ فالقرية في حياتنا الدنيوية لا تتَكلَّم، وأما كلامُ الجمادات فذلك بخبرِ الشرع يكون يوم القيامَة بقدرة الله؛ وهكذا كلامُ الأعجمِ من الحيوانات، والجوارحِ كشهادةِ الأرجل.. ونُطْقُ الأعجم كالهدهد والنَّمْلِ في حياتنا الدنيا جعله الله معجزةً لسليمان عليه السلام خاصةً به؛ لأنَّ الله جعل ذلك استجابةً لدعائه؛ إذْ دعا ربَّه أنْ يكونَ ذلك لا ينبغي لأحدٍ بعده كما في خبر الله عن دعائه بقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (40)} [سورةص/ 34 - 40] ؛ فذلك سياق تَضَمَّن بعضَ ما خصَّه الله به.. وتضَمَّنتْ شبْهتُهُم شبهةً ثانية؛ وهي أنَّ اللغاتِ من آيات اللهِ؛ وهو سبحانه الذي عَلَّمَها خَلْقَه؛ فجعلها دالَّة على مُرادِ الخلائق، وبنى علماءُ اللغة على ذلك أنَّ اللُّغَة عبقريَّة، ولو دلَّت بمفرداتها وجُمَلِها على غير مرادِ الْـمُتَكَلِّمِ: لما كانت عبقريةً بِمُقْتَضَى أنَّ اللهَ جعَلَها دالةً.. وكما أنَّ هذه الشبهة مُضَمَّنةٌ في الشبهة الأولى: فإنَّ الردَّ عليها مُضمَّنٌ في الردِّ على الشبهةِ الأولى.
والوقفة الرابعة: وَجْهُ ارتباط المتنِ الأول بالمتنِ الثاني: أنَّ الحديثَ الْقُدْسيِّ أخْبَرَ عن فرحِ اللَّـهِ بتوبةِ عبدِه (الفرحِ الذي يليق بجلالِ الله وعظمته؛ وقد وعدتُ بتحقيقِ ذلك بَعْدَ نِهايةِ هذه الحلقات الخمس)؛ وفرَّعَ على ذلك: أنَّ الْـفَرَحَ مِن الْـمَخْلُوقاتِ يترتَّبُ عليه المُبادرةُ إلى الاسْتِمتاعِ بالشيءِ الذي فَرِحَتْ به - ولِلـَّهِ أنْ يضْرِبَ الأمثالَ للناسِ، وليس لهم أنْ يَضْربوا الأمثالَ لخالِقِهم؛ لأنَّ اللهَ يعلمُ ونحن لا نعلم إلا ما عَلَّمنا.. ومِـمَّا علَّمنا ربُّنا بإدراكنا الْـحِسِّيَ أنَّ مَنْ فَرِح بوجودِ ضالَّـتِه سيبادِرُ إليها بِشِبْرٍ - وهو أقلُّ مِن الذِّراع -؛ لهذا فسيبادِرُ إليه رَبُّه بذراعٍ بِمُقْتَضى فَرَحِهِ، وهكذا الذراعُ والباعُ، والْـمَشْيُ والْـهَرْوَلَةُ.
والوقفة الخامسة: أنَّ عِلْمَ الأحياءِ تطوُّرَ في العصرِ الحديث تطوُّرَاً هائلاً؛ فعلماءُ الأحياءِ يعلمون بالاستنباطِ مِن مشاهدتِهم الْحِسِّيَّةِ مقاصِدَ الأحياء التي آتاها خالِقُها خَلْقَها ثُمَّ هَدَى؛ فهذا العلمُ الاستنياطيُّ الْحِسّْسِيْيَ ليس فهماً لصوتِ الأحياءِ بلغةٍ مفهومة؛ فذلك خُصُوْصِيَّةٌ لداوود وسليمان وبعضها لمحمد عليهم أفضل الصلوات والتسليم كحنين الجذعِ وشكوى الْحُمَّرَةِ، وهو يكون يوم القيامِةِ، ولا ثالث لذينك، وإلى لقاءٍ عاجِلٍ إنْ شاء الله تعالى، والله الْـمُسْتَعانُ.