د. عبدالرحمن الشلاش
قابلت بالصدفة قبل أيام ومع انطلاقة العام الدراسي وعند بوابة إحدى المدارس بمدينة الرياض شخصاً عزيزاً تعرّفت عليه قبل سنوات في مجال العمل. كان يقود سيارة جيمس صالون عائلي مكتظ بالركاب ويبدو أنهم طلاب وطالبات. سألته عن أحواله وعمله فقال تقاعدت وتحولت إلى سائق للعائلة ومن تراهم معي بالسيارة أولادي وبناتي أتولى توزيعهم كل صباح على مدارسهم ثم أجمعهم بنهاية اليوم الدراسي، هذا عدا مشاوير العائلة الخاصة، ثم أردف بنبرة حزينة ضغوط الحياة وسوء النقل العام والمدرسي وقلة الحيلة تجبرنا على ذلك وخصوصاً أنني غير قادر على جلب سائق، فراتب التقاعد بالكاد يكفي الحاجة، وكنت أتوقع أنني سأرتاح بعد التقاعد ولكن العبء زاد أكثر!
من المألوف أن تجد كثيراً من الآباء يوصلون أبناءهم وبناتهم للمدارس ومنهم موظفون على رأس العمل ومتقاعدون انخرطوا في خدمة العائلة بعد التقاعد بكل تفان وإخلاص فليس بالإمكان أفضل مما كان يحدث هذا في العائلات محدودة الدخل حين يجد الأب أن لا مناص أمامه من تولي مهام السائق بكل تبعاتها ليس فقط في التوصيل للمدارس ولكن حتى في التوصيل للأسواق والمناسبات والاستراحات وفي جلب المشتريات من السوق، وأما إن كانت زوجته من النوع الذي لا يستقر إلا قليلاً في المنزل فكان الله في عونه، إذ سيبكي على أيام العمل الخوالي فقد تكون أرحم رغم قسوتها. الأب من شريحة ذوي الدخل يظن أن أيام التقاعد فرصة للراحة والاسترخاء والتقاط الأنفاس وما علم المسكين أن عذره الذي كان يلوح به أمام العائلة الكريمة وهو ظروف العمل قد احترق، إذ سينظر إليه من بعض أفراد العائلة المتسلطين أنه مجرد شخص عاطل ويجب عليه أن يترك الكسل ويشمر عن ساعد الجد ويتولى مكان السائق الشاغر في العائلة محدودة المردود الاقتصادي وسط انعدام وسائل النقل العام وسوء وسائل نقل المعلمات والطلاب والطالبات.
الأب تحول إلى سائق محترم للعائلة بعد أن خرج من بوابة العمل يغني للحرية فوجد نفسه في قفص المتطلبات العائلية. لا يتحرك خطوة واحدة دون أن تلاحقه طلبات أفراد الأسرة. يذكر لي أحد الزملاء الظرفاء أنه عندما يذهب إلى الاستراحة لا يعكر عليه صفو متعته مع الأصحاب إلا الرسائل الثقيلة القادمة من منزله العامر تحمل طلبات من البقالة أو المكتبة خاصة، إذ احتاج الصغير لقلم رصاص يحتم عليك الخروج من بين الأصدقاء تاركاً مكانك الوثير وأجواء الصفو الباذخة للحاق بأقرب مكتبة لإحضار القلم المطلوب!
الأسر المخملية ومن أنعم الله عليهم لا يدخلون ضمن هذا الإطار الصعب، فلدى كل واحد منهم عشرات السائقين والخدم لذلك لا يعانون من هذه النوعية من المشكلات. قد يعاني منها بعض جيدي ومتوسطي الدخل لأسباب منها عدم قناعتهم بوجود السائق الأجنبي في المنزل، أو أن ثقل المصاريف يمنعهم من السعي للحصول على سائق.
يبقى الأب من هذه النوعية وإن جاز لي تسميته بالجندي المجهول مخلوقاً صابراً رغم ثقل المسؤوليات على كاهله وجحود المحيطين به يكافح على كل الجبهات وسط إمكانات محدودة وتسهيلات شبه معدومة.