كوثر الأربش
ما الذي يحددنا، من نحن؟ سؤال موجز لإجابة لا يمكن أن نوجزها بأي حال. لكننا - ومع الأسف - نفعل. حينما نراك، وللوهلة الأولى، نعتقد أننا عرفناك، لكننا عرفنا ظرفك وصفاتك. الطبيب، المعلمة، ربة المنزل، السياسي، المزارع والكاتب، هذه صفاتنا وليست ذواتنا. في اللقاءات الأولى، وبعملية ذهنية، لا نتكلفها، نحدد السمات الأولية للشخصية من خلال ما نراه، نلمسه، نشمه ونسمعه. لأننا مسجونون في حواسنا. نصدقها قبل أن نرى الإشعاع المختبئ وراء المظاهر والصفات. هذه إحدى إرهاصات عصرنا الطافي، الذي فقد القدرة على الغوص للعمق والمعنى. والإشكال الحقيقي ليس هنا، لا يسعنا أن نقشّر ذهنية عصر بأكمله، عصر مفتون بالبصريات والأغلفة والعناوين البارزة. عصر أعمى يتحسس بأطراف أنامله النتوءات ويعجز عن رؤية الإنثناء الحقيقي والباهر للذوات. الذوات المتفردة التي لا يشبه أحدها الآخر. على مسرح برنامج «بريطانيا لديها مواهب - Britain›s Got Talent» وقفت بوجهها الخالي من المساحيق، حاجبيها غير المهذبين، وخطوط تجاعيدها التي تكاد تشم فيها رائحة الأرض. فستانها البدائي والهارب من عصور سابقة دون أن يهتم. دارت الكاميرا، صورت الشفاه الممطوطة سخرية، صورت الاستهجان والتوقعات المسبقة والخائبة على الوجوه والحواجب المتعجبة. لجنة التحكيم، وبتهكم واضح، دعتها للبدء، بعد أن زفر سايمون تنهيدة تقول: على هذه اللحظات من الزمن أن تكون أسرع مما يجب. الكاميرا عادت للمتسابقة. دارت الموسيقى، وانطلق الصوت. الصوت الأوبرالي الذي امتد كيد طفلة، واندفنت في أعماق الجميع، قبضت على القلوب، حصدت الزفرات. تأرجحت الصالة، وبكى الناس. تلك كانت سوزان بويل، الخمسينية التي علقت بثيابها خضرة أرياف بلاكبورن. التي اعتقد الناس أنهم عرفوها من خلال ثلاث قنوات: عمرها، مظهرها، عملها (ربة منزل). لم يتكلف أحد، وحتى لجنة التحكيم، أن يتجاوز تلك المنطقة الضحلة، وينطّ للعمق. وهكذا نحن..كسولون ونفضل رمي سناراتنا في الضفة القريبة. وهذا، كما قلت في البدء، ليس الإشكال الحقيقي. المشكلة الواقعية، هي أن تصدق أنت ما يحشرك فيه الآخرون من قوالب. إذا كنت سياسيًا أو من وجهاء المجتمع، لن ينتظر منك الناس أن تخلع بشتك، وتنزل في أرض رملية تشارك صبية الحواري لعبهم كرة قدم. إذا كنتِ مثقفة لن يتخيل الناس أنك قد تقصين شعرك، بدلاً من عقده للوراء على طريقة «كعكة آنسة منشن»، تلعبين الزومبا، أوسمعين أغنية لرابح صقر مثلاً. إذا كنت فلاحًا لن ينتظر الناس منك أن تقف عند دانكن دونات، تحتسي قهوة وتتصفح جريدة. إذا كنت ممثلة لن يصدق الناس أنك قد لا تعبأين بخطوط الحمل على بطنك وتحملين عدة مرات «كأنجلينا جولي» مثلاً. إن كنت طباخًا فسيبحث الناس عن كرشك، ورائحة العرق الممزوجة بالبصل، لن يصدقوا أن قوامك جميل، وأنك تضع عطر «كالفن كلين». نحن لا نسمع أصواتنا العميقة، لا نستجيب لنداء ذاواتنا الخاص، لفهمه، والحوار معه، والأخذ بيده نحو تمثيلنا الحقيقي والصادق. إنما نستجيب للقالب الذي يصبنا فيه الآخرون، بل ونقصص من أطرافنا ليستوعبنا القالب. نصدق ما هو مكتوب في وثيقة التخرج، نصدق بزة العمل. لهذا لدينا أساطيل مدججة بالمتشابهين في كل مجال. لأن كل منا يخنق حياته في مسميات الناس وتطلعاتهم. وأنت قد تكون أكبر مما يخاله من حولك. لا بأس لو انزلقت من الإطار، تمددت بإِنسانيتك، صرت كما أنت، وكما تحلم وكما تريد. لقد انتهى زمن الكاركترات والقوالب. نحن في زمن الشخصيات اللا محدودة، الشخصية الأكبر من الحياة بذاتها، أعني الحياة التي يتصورها الآخرون لك. سئل أحد مقدمي البرامج الفنان المصري «يحيى الفخراني» في مقابلة قديمة: لو أنك في زمن سابق، زمن البطل الوسيم، مالدور الذي سيعطيك إياه المخرج؟. أجابه الفخراني: دور الطباخ!