د. حمزة السالم
من البدع الخطيرة التي دخلت على المسلمين بدعة الفقيه. وقد ذكرت كتب السيرة والتاريخ كثيراً مما أخفاه الفقهاء من الحوادث والفتن والدماء بين أتباع المذاهب الأربعة. في مرو وخرسان وفي بغداد ودمشق وفي إصبهان وغيرها. يقتتل الشافعية مع الأحناف والحنابلة مع الشافعية. فيقتل بعضهم بعضاً ويحرق بعضهم بيوت ومتاجر بعض حتى خلّفوا مدناً كاملة مخربة. وقطعوا الأرحام، فحرم كل فقيه الزواج من أتباع المذهب الآخر، إلا الفقيه المُيسر منهم، فتراه يُنزل أتباع المذهب الآخر منزلة أهل الكتاب، فيُجَوز نكاح نسائهم.
ودائماً ما يكون العامة هم شرارة الفتنة، وهم وقود النزاعات وحطامها، والفقهاء منظرون أو محرضون. فما كان هذا ليكون إلا من بعد أن يكفر فقهاء مذهب أتباع المذهب الآخر، ويحكون خبث اعتقادهم. وما أوقف هذه الفتن المهزلية، إلا دخول المستعمرين ديار المسلمين، فاضطروا للتوحد ضده.
أما تكفير فقيه لفقيه آخر أو تبديعه أو رميه بالضلال والجهل فحدث ولا حرج، فلا يكاد يسلم منها فقيه في حياته. فالفقهاء يترحمون على الأموات ويكفرون أو يفسقون الأحياء. ولو كان لأحد أن يسلم، لسلم البخاري. وتكفير العلماء لابن تيمية في عصره، مشهور معلوم. بل لم تجتمع المذاهب على أحد كما اجتمعت على شيخ الإسلام رحمه الله فنودي في دمشق «مَن كان على دين ابن تيمية حلّ ماله ودمه».
فأخطر بدعة خرجت في أمة محمد، هي بدعة الفقيه. ولهذا حذّر القرآن في إشارات لأحبار اليهود ورهبان النصارى من اتخاذ الفقهاء، وقد فسرتها السنّة بأنّ اتباعهم هي عبادتهم. وصرح الوحي بأننا سنسلك مسلكهم فيكون لنا أحبارنا ورهباننا، وصدق الله ورسوله.
وفقهاء تكفير ولاة أمور المسلمين بدعوى الحاكمية يستشهدون بآيات عامة في وجوب تحكيم شرع الله، ثم يضعون أنفسهم الحكام بشرع الله. فليتهم حكموا شرع الله فأرجعوا حق الحكم لمن حمّله الله مسئولية الحكم، وهم ولاة الأمور. فالقرآن والسنّة القولية والفعلية وسنّة الخلفاء الراشدين كلها لم يعتبروا الديانة ولا أقدمية الهجرة في تعيين الأمراء والولاة والقادة. بل تؤكد على عدم اعتبار الفقيه مطلقاً في أمور الولاية وبالتالي في تحاكم الأمة إليه. فالتحاكم للحاكم لا يعني أنّ حكمه هو حكم الله، بل حكم مسلم في أمور الدنيا، قد يصيب ويخطئ. وغالب أمور الدنيا حكمها حكم البراءة الأصلية أو تكون من باب الوسائل أي أنها مرتبطة بذرائع، إذا زالت زال أمرها أو نهيها، وعادت لحكم الله بالبراءة الأصلية. وقد وضح الفاروق هذه السنة توضيحاً عملياً، ما كان ليخفى على راعي غنم، لولا الفقهاء، وتأويلاتهم للشريعة.
ولذا في الحديث الصحيح «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر» فالله لا يرضى أن ينسب الظلم والتسلط إليه. فغالب تسلط الدول الديني، لا يكون إلا بتسليط رجال الدين وآرائهم. ورجال الدين هم من أفسد اليهودية والنصرانية. ونحن نسير سيرهم، وصدق الوحي وصدقه التاريخ، وكذب من حرّف خبر الوحي في تبعية تطبيق اليهود والنصارى لدينهم ، ليبرؤ الفقهاء.
وبعض الفقهاء ذهبوا بعيداً في مسألة تكفير ولي الأمر بدعوى التحاكم لشرع الله، فأنزلوا أنفسهم منزلة الشارع. فتراهم يستدلون بآيات لا تُنزل على بشر غير رسول الله عليه الصلاة والسلام. كقوله تعالى {فإنْ تنازعتُم في شيءٍ فرُدّوه إلى اللهِ والرسولِ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسنُ تأويلاً}، وقوله {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. فمتى يُحقق الحاكم هذا عندهم؟ إذا كان الفقهاء هم الحكام!
وتراهم على استشهاداتهم العامة لا يأتون في مواضيع الحاكمية بقوله تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ .
ولا يأتون بأول الآية في قوله تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ بل يأتون بآخر الآية ثم يأولونها بتنزيل الفقيه مكان الرسول وتنزيل الأمة حاكماً ومحكوماً، منزل المتخاصمين ليتحاكموا للفقهاء. وعند التأمل، فإنك سترى أنّ الفقهاء أنفسهم هم من خلق النزاع بين الرعية والحاكم ثم جلسوا مجلس الحكم في النزاع بدلاً من مجلس المتهم.
وقد أوّل الفقهاء آيات العلم فأنزلوها على أنفسهم رغم مخالفة سياق النص. فمثلاً في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء فسياق الآية يدل على أنّ العلماء المقصودين في الآية ليسوا هم الفقهاء. بل العُباد والمتأملون في خلق الله وسننه الكونية وهم علماء الطبيعة والإنسانية والقوانين الكونية. وكذلك الرهبان في الصوامع من النصارى ونحوهم مما نهينا عنه من عزلة ورهبانية.
وقال عليه الصلاة والسلام «نحن أمة أمية» فما يحتاج الدين من وسيط معلم ولا مرشد،. وحديث رسول الله لا يناقض بعضه بعضاً، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين». فمن لم يفقه دين محمد النبي الأمي على بساطته، كما فهمه أصحابه الأميون، أتعب نفسه وضيق عليها وأرهقها في اتباع سنن اليهود والنصارى في اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله وهو يحسب أنه يظن أنه يحسن عملاً.
الفتح الإسلامي كان في صدر القرن الأول، قبل خروج بدعة الفقهاء. فما هناك من فقيه ولا شيخ له الحكم إلا ولي أمير المؤمنين وأمراؤه وولاته، ولهذا كانت جيوش الإسلام إذا دخلت بلداً نادوا بأنّ المُلك لله ثم لأمير المؤمنين، فنحن اليوم في بلادنا ننادي أنّ الُملك لله ثم لابن سعود. وهذا تحقيقاً لقولنا حقاً رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ونشهد أنه قد بلّغ الرسالة وأغنى العباد عن الوسيط والشفيع.