د. عبدالحق عزوزي
الزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين خطر على الدين والدولة والمجتمع. الإسلام بخير والمسلمون بخير والذي ينقصنا هنا في الكثير من الأوطان العربية هو خلق أدوات التسيير الصحيحة للإبداع والابتكار في مجال تسيير الشأن العام لتحقيق التنمية والوصول إلى مدارج الكمال حتى نحقق ثقافة النحل في الإنتاج الاقتصادي المثمر. هذا هو المطلوب...
وقد اقتنعت بعض الأحزاب السياسية في بعض الأوطان على خطأ أنها يجب أن تشتغل وتفرض هيمنتها بالاستثمار المنظم لمورد حيوي يتمثَّل في الدين وفي مجتمعات كلها مسلمة، وهنا تكمن المشكلة لأن الصراع بين الأطياف المجتمعية السياسية سيغوص في متاهات وغيابات دينية خطيرة في مجال ليس بالديني، وإنما هو مجال سياسي تتصارع الأحزاب داخله انطلاقاً من برامج حزبية دنيوية تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والمؤسسات وغيرها، وليس انطلاقاً من العوامل الدينية. الزج بالدين في المجال السياسي العام فاتح لأبواب جهنم لأنه في بعض الأحيان يخرج ضعاف النفوس والعلم أناساً من الملة لأنهم ليسوا على طريقتهم كما يرونها هم، أو لم يتبعوا منهاجهم في مسائل تافهة ويبدأ الصراع في مسائل عقدية في مجتمعات مسلمة - داخل المجال السياسي - وهاته مصيبة آزفة ليس لها من دون الله كاشفة.
وقد يقول قائل إن أي حزب في الحكم يحتاج إلى إيديولوجيا، لأن أجهزة القمع المادي لا تكفي لتسعف نظاماً منتخباً بالبقاء والاستقرار والتحكم في إدارة السيطرة السياسية، كما جاء عند غراشي عند تفسيره لمفهوم الهيمنة، ولكن أجهزة الدولة الإيديولوجية حسب تعبير ألتوسير - عندما تنهض بدور الهيمنة، فإنها تنبثق انطلاقاً من مسلَّمات ديمقراطية داخل المجال السياسي العام، وإذا اتسمت تلك الإيديولوجيا بالإقصائية كما كانت عند هتلر مثلا أو طُبعت بلون ديني صرف، فإن فعل الإيديولوجيا هنا لن يكون فعل هيمنة ديمقراطية، وإنما سيكون فعل عنف لا يلمس، ولكنه يلحظ في علاقة المؤسسات بعضها ببعض والأفراد بعضهم ببعض، وسيحدث في المجتمع شرخٌ لا يرأب وانفصالٌ بين في جدار اللُحمة الحامية للبلاد، وستبقى الشرعية الدستورية ولو جاءت عن طريق صناديق الاقتراع ملتبسة الشخصية والطبيعة بسبب تكوينها الهجين وصورية القيم السياسية المثلى التي بدونها لا يمكن تحقيق مصالح المواطنين (أتحدث عن التعددية، استقلال القضاء، حرية الرأي سلطة القانون... إلخ).
إن التحول السياسي مسلسل طويل... فلا توجد وصفة سحرية يستيقظ الناس صباحاً، ليجدوا هذا الانفتاح السياسي قد جذّر أركانه.. فذهاب الأنظمة السابقة ليس الترمومتر الوحيد الدقيق لقياس درجة تطبيق وتجذير الانفتاح السياسي.. فالفكر والوعي السياسي المتبصر والثقة بين الحاكم والمحكوم، والحاكم وكل المؤسسات أدق المقاييس وأجلّها إلى كشف المستور الذي عادة ما يتأخر كشفه، وهو بمثابة الماء الذي جعل الله منه كل شيء حياً..
إن بناء الدول والأمصار بعد سقوط نظام عسكري أو دكتاتوري من أعقد المسلسلات وأصعبها.... فلا يعني ذلك البتة حلول الانفتاح السياسي والاقتصادي والقطيعة مع النزعة الشمولية، بل إذا لم تبطن في الدولة نخب متمكنة ومجتمع سياسي ومدني متبصر، فقد يعني ذلك، مجيء سنوات عجاف من اللا يقين واللا مسؤولية والفتن ما ظهر منها وما بطن؛ لذا فكل العلماء الذين تناولوا بالبحث والتنقيب قواعد التحول بدراسة السوابق في أوروبا العجوز وأمريكا ثم أوروبا المتوسطية (إسبانيا، اليونان، البرتغال) وأمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية ميزوا بين الانتقال الديمقراطي وتجذير الديمقراطية، لأن الأولى قد تودي إلى شيوع النزاعات، بل وإلى صراعات غير مألوفة كما هو الحال في البعد الطائفي اليوم في العراق وسوريا وليبيا...
ولكن الداهية العظمى والمصيبة العاتية التي لم تكن في زمن خوان لينز وفيليب شميتر وتيري كارل، عندما نظروا للانتقالات الديمقراطية في تلكم البلدان، والموجودة بطريقة غير مألوفة في بعض بلدان الوطن العربي، هو تواجد إرهاب غاشم لم تعهده البشرية من قبل، يزلزل كل الاحتمالات السياسية، ويجعل من المسلسلات الانتخابية ولمّ شمل الأطياف المجتمعية والسياسية أمراً صعباً. خذ مثال تونس.. البلدة عرفت منذ خلع الرئيس بنعلي مسلسلاً ينم عن وعي سياسي قلَّ نظيره، لتواجد نخب واعية وغياب ما أسميهم بالأعراب السياسيين مقارنة مع بعض البلدان، وقبول تلك النخب ولو على مضض بمبدأ توزيع السُّلط واقتسامها على أساس توافق سياسي وانتخابي يقوم على مرجعية ميزان القوى وإرادة الرأي العام... ثم يأتي الهجوم الإرهابي الأول على متحف باردو، وهجوم ثانٍ على فندقين بمدينة سوسة بتونس خلَّف لوحده 39 قتيلاً، لتتوقف بصفة درامية معالم وروح الثقة السياسية والاقتصادية، فالدول الأجنبية تحذر رعاياها من زيارة تونس، والبلد يعلن حالة طوارئ، والاستثمارات الأجنبية الضخمة تطرق أبواب دول أخرى.
هذا الإرهاب أصبح اليوم فاعلاً مهماً في تقويض القشرة الحامية للدول، وهذا الإرهاب هو تلوث فكري وإيديولوجي يصعب تطويقه أو محاربته أو مراقبته، ويكفي عملية إرهابية واحد لإرهابي واحد متشبع بأفكار الظلاميين والتكفيريين، ومتسلح بسلاح بسيط ليودي بحياة العشرات من البشر في رمشة عين، وهو ما لم يعهده الإرهاب الكلاسيكي طيلة العقود، بل القرون الماضية.
مثال آخر يمكن سرده هو ليبيا.. فالعديد من أطراف النزاع وقَّعت مؤخراً في مدينة الصخيرات المغربية، بعد أربع سنوات من سقوط حكم العقيد الليبي السابق معمر القذافي، بالأحرف الأولى على اتفاق سلام ومصالحة يفتح الطريق أمام تشكيل حكومة وطنية؛ ولكن في أرض الواقع نرى ميلشيات عسكرية ومجموعات إرهابية تتصارع وتتوسع وتستولي على خيرات البلاد؛ فداعش يتوسع على الأرض في غياب الدولة الموحدة، ويلتف الآن للسيطرة على الهلال النفطي، وما أدراك ما هذا الهلال الجغرافي الذي يضم أكثر من 60 في المائة من نفط ليبيا.
فكيف سيُقضى على هاته الجماعات الإرهابية المسلحة حتى النخاع والمنتشرة فرادى وجماعات هنا وهناك، ولهم أنصار كثر يحملون الأسلحة المتوسطة والثقيلة في بنغازي ودرنة وسبها وغيرها. صحيح أن هناك مشاكل أخرى تحوم حول الاتفاق التاريخي الذي وقّع في الصخيرات، ولكن المشكل الإرهابي هو الأخطر.
هناك طبعاً معضلة اقتراب الموعد القانوني لانتهاء أعمال البرلمان الحالي في 21 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، وهناك معضلة كيفية تليين القلوب والنوايا بين أعداء الأمس واليوم، كما هو الحال بين شركاء ثورة فبراير (شباط)، والتيار المدني من جهة أخرى، والذين اقتتلوا وقضوا بصواريخهم على مطارات ومصافي للنفط، بل وعلى مدن بأسرها ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ وهناك قضية القبائل الكبرى التي ظلت بعيدة عن مجريات التفاوض، إلى غير ذلك.. وهاته المشاكل كلها يمكن التغلب عليها بالإرادة الجماعية وتغليب مصلحة البلد على المصالح الذاتية والقبلية، والسير بعيداً باتفاق الصخيرات وإنشاء حكومة اتفاق وطني، ولكن الذي أخشاه هو الفيروس الإرهابي الذي وطد دعائمه في البلد، فهو لا يومن بحكومة ولا مصالحة ولا بليبيا ولا بمصلحة الليبيين، والذي سيضع أي اتفاق وأية حكومة على المحك.. الاتحاد الأوروبي القريب من الضفة الجنوبية للمتوسط، مطالب بتثمين ومصاحبة اتفاق الصخيرات، وتشجيع الأطراف على بناء حكومة وحدة وطنية مصحوبة بجيش قوي له كل الإمكانيات المتطورة لتثبيت الأمن في البلد واقتلاع جذور تنظيم داعش وأمثاله، وإلا ستنهار الدولة ومعها كل بوادر الانفراج الحالية.. تدخلت فرنسا عسكرياً ولوحدها في مالي، وأعادت الروح إلى هذا البلد الذي كان قاب قوسين أو أدنى ليصبح في أحضان الجماعات الإرهابية.. وليبيا دولة تستلزم تحركاً إستراتيجياً وأسرع.