د. عبدالحق عزوزي
في مقالات سالفة حاولنا التأصيل لمسألة كيفية قراءة العلاقات الدولية. والمفكر الأمريكي جيمس روزنو كان قد حذرنا بذكاء في بداية تسعينيات القرن الماضي من مغبة الاضطرابات التي قد تعيشها العديد من مناطق العالم، كما طالب بالابتعاد عن النظريات الشبيهة بنظرية هانتغتون الذي يدعي صياغة العالم في خرائط.
فالعالم الحالي ليس أحادي القطب وليس ثنائي القطبين ولا متعدد الأقطاب وليس عالما شموليا بشكل تام ولا مجزئا إلى أبعد حد: إنه عالم، كما يكتب زميلنا فريديرك شاريون -وهو من ابرز المفكرين الصاعدين في سوسيولوجيا العلاقات الدولية في أوروبا-غير منظم في شكل حضارات وتكونه حضارة موحدة.
وإذا كانت الشمولية تتجه إلى تراجع المطالبة بحق الهوية، وإذا كانت التوجهات نحو التجانس تستدعي بالمقابل دعوة خصوصية للمعنى الذي يضع القيم في قلب العمل الدولي، فلقد أضحى العالم أكثر تعقيدا، كما يتجلى ذلك من خلال دراسة سوسيولوجية الأفراد المواطنين والمستهلكين للقيم والشعارات والذين يفرقون بين مختلف مصادر المعلومات والخطابات المتاحة. ويعرف هذا الإنتاج أزمة رباعية بوأت «الفرد المقتدر» في المقام الأول. فهي أزمة المعاصرة في البدء: حيث ينظر إلى العالم الجديد في غزة كما في كابول وفي بغداد كما في أبيدجان على أن جودة الحياة قد تدهورت، وأن الخطابات السلفية أو التي تحن إلى العصور الذهبية تجد في ذلك ضالتها. ثم إنها أزمة الاندماج، إذ تنتج الشمولية المهمشين على صعيد القارة بأسرها (القارة الإفريقية مثلا) والذين يزيدون من حدة الأزمة السالف ذكرها، وهناك كذلك أزمة الدولة التي فقدت الوسائل التي امتلكتها آنفا الدولة الراعية والحامية لتلبية متطلبات الضعفاء. وأخيرا هناك أزمة تعميم النموذج الغربي الذي كان يتسم بقيم العقلانية والتقدم والذي نادى بتعميمه وبشر بفوزه جل المنظرين الغربيين بحيث يمكن تطبيقه على «دول العالم الثالث» التي عانت من مبدأ «الدول المستوردة» وأضحى اليوم موضع انتقاد.
ومن هنا يطرح سؤال آخر، فهل وحدها عقلانية العلاقات الدولية هي نفسها عقلانية الغرب؟ وهل يتعين علينا اعتبار أن الغرب يجسد الحكمة الجيدة والمنطق والفعالية؟ وهل نخال أن ما يخرج عن المجالات التي تخلى عنها الغرب ينتمي بالضرورة إلى مجالات الوجدان والظلامية وعدم الكفاءة ؟ وهذا ما يحصل في الدول الغربية عندما تعاقب دولة لا تعمل بتوصيات البنك الدولي، وكذاك الشأن عينه عندما تمنع دولة من امتلاك بعض الأسلحة المتطورة، على خلاف دول أخرى، لا لشيء سوى لأنها بعيدة عن الغرب. وهكذا تفرز الدول الغربية قواعد جديدة للاحتجاج وتشجع كذلك بطريقة غير مباشرة مجالات التضامن بين هؤلاء الفاعلين. ففي كراكاس ودمشق وبلغراد وفي جهات أخرى تتكون جبهات. كما يحدث الشيء عينه في موسكو أو في بكين. ولعل الإفراط في تماهي المنطق غير الغربي بالمنطق المارق أو بالأحرى بالمنطق المجنون ينتج ثقافة دولية مضادة. ولا يتعلق الأمر هنا بالحتمية الثقافية المتصلبة لهانتيغتون، بل يتعلق بثقافة الاحتجاج المتغيرة والمتطورة والتي يخلقها فاعلون كثر... هذا من جهة. ومن جهة أخرى غالبا ما يتناسى البعض دور النرجسية الثقافية في فهم بعض الظواهر في العلاقات الدولية، ولعل الرجوع إلى الكتاب الأخير الذي ألفه أيمانويل تود عن الأحداث الدامية الأخيرة في باريس أكبر معبر لذلك.
وإيمانويل تود هو واحد من علماء الاجتماع الفرنسيين الأكثر ذكرا اليوم في الأوساط الفكرية والأكاديمية والسياسية والمنابر الإعلامية؛ فقد أصدر مؤخرا كتابا أحدث زوبعة ما بعدها زوبعة بعنوان»من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية» (يوليوز (تموز) 2015) إلى درجة أن الحكومة الفرنسية في شخص وزيرها الأول مانويل فالز رد عليه بمقال نشره في جريدة «لوموند» تحت عنوان:» ضد التشاؤم السائد والذين يريدون تناسي 11 يناير»، والكتاب يصف بذكاء وبسوسيولوجية قل نظيرها، مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية؛ ثم إن هذا الإحساس يولد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف: «لقد رسمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) دفاعًا عن مبدأ الحرية المطلقة لأي شخص في رسم ما يريد. نحن لا نزال نؤمن بحقنا في انتقاد كل الديانات، لكننا بقيادة هذه الفئة الميسورة والمهيمنة على المجتمع نستهجن انتقاد قيمنا ومعتقداتنا المتحضرة، ونلجأ إلى (أولغارشية الحشود) لصناعة حق يحمل في طياته عنفًا تجاه الغير». قبل أن يتساءل المؤلف في كتابه «بأي حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاترية؟ وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير.» والمعنى الأصيل لهذا التحليل هو أن هذا الاستعلاء الطبقي والاستخفاف بالفئات الأقل يسرا وتواجدا في المؤسسات النافذة للدولة يعني سوسيولوجيا «أن السخرية من الإسلام هي محاولة إذلال الأقلية الأقل ضعفا في المجتمع» بمعنى أن المسلمين هم في الطبقة الأدنى في المجتمع ورسم رسولهم الكريم كاريكاتوريا هو جزء من هاته العملية الاستخفافية في تحالف مع التيار العلمي المتطرف الذي ينظر إلى المسلم من زاوية الإرهاب والتطرف والغلو والذي يجب أن يستبعد من حقوق المواطنة.
الزميل إيمانويل تود هو من عائلة فكرية ذات صيت عالمي، فهو ابن واحد من أبرز رؤساء تحرير المجلة الفرنسية الشهيرة L›Express، أوليفيي تود، وهو ما خلق له بنوة فكرية مع واحد من عمالقة الفكر في فرنسا جون فرنسوا روفيل، كما أنه حفيد الروائي الكبير بول نيزان، وهو واحد من أبناء عمومة كلود ليفي ستروس الذي خلق مدارس فكرية تدرس في العديد من جامعات العالم. ايمانويل تود الذي عده البعض مرتدا وخارجا عن الجماعة الفكرية الرسمية في فرنسا، لم يخن ذاكرة مؤسسي الفكر النقدي والفكر المتفتح الفرنسي والغربي، فهو على خطوات ألفريد سوفي، وتفاؤل بيير شوفي، عالم التاريخ الفرنسي المحسوب على اليمين والذي ظل قامة إنتاجية طيلة حياته. إيمانويل تود في تحاليله السوسيوليجية دائما ما يزاوج بين العوامل الديمغرافية والأنتوبولوجية في شرحه للظواهر المجتمعية بعلمية وحرفية وأكاديمية كبيرة؛ فقد كان من أبرز من نظر لنظرية «الشرخ الاجتماعي» La fracture sociale التي أخذها عنه الرئيس جاك شيراك في حملته الانتخابية لسنة 1995، كما كان قد تكهن بتفكك الاتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكيفي سنة 1976، وغالبا ما يسير عكس التحاليل الرسمية إلى درجة أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي وصفه سنة 2007 «بمرشح الفراغ».
الذين خرجوا في مظاهرات 11 يناير حسب إيمانويل تود هم رجال مسنون ومن فئات جد ميسورة وهي لا تمثل الوحدة الوطنية التي يدعون تمثيلها، لذا غاب عنها الفقراء والمهمشون (أبناء الضواحي)، وبمعنى آخر فإن هاته الطبقات تمثل الوجه الآخر لشارلي ويجسدون يمينية اليسار أكثر من اليمينيين أنفسهم...
هؤلاء الذين اجتمعوا في المظاهرات الحاشدة حسب تود أصيبوا بهستيريا اللائكية الجديدة، فهم موضوعيا عنصريون وإسلاموفوبيون، وهم اليوم ضد المسلمين كما كانوا بالأمس ضد مبادئ الثورة...وهذا التشبيه وهاته الجرأة الفكرية التي أتى بها تود لا يمكن أن يقوم بها إلا من أوتي شجاعة فكرية لانتقاد الحالة الميتافيزيقية المزرية التي تمر منها الدول الغربية والحداثة الغربية التي يظن حراسها أنها العلاج الوحيد لأمراض الآخرين.وهذا النوع من التحليل إذا ما استمر فسيمكن الدول الغربية على المدى المتوسط من تبني قوانين وإجراءات زجرية لمحاربة ازدراء الأديان والتهكم عليها وبث روح الكراهية ضدها وداخل المجتمع... وبعض الدول العربية هي اليوم سباقة في تصور مشاريع وقوانين تجرم ازدراء الأديان، وستستطيع الدول الغربية الوصول إلى هاته المرحلة عندما ستقضي على نرجسيتها الثقافية.