عبدالعزيز القاضي
مانيب من عاش لا يربح ولا يخسر
ولا هو ضروري تكون أفعالي أخلاقي
- نايف صقر
هذا بيت من قصيدة للشاعر نايف صقر مطلعها:
الموت حظ القلم والمجد للدفتر
حبر القلم غلطتي وأيامي أوراقي
وقد أثيرت بعد نشر القصيدة قبل ما يقارب العقد والنصف من الزمان قضية أدبية حول هذا البيت موجزها أن نايف سطا في شطره الثاني على بيت الحميدي الثقفي الذي يقول:
مهو لازم أقطع دابر الشك بالتصديق
ولا هو ضروري تعكس (أشعاري) أخلاقي
وهذا واضح, وأخذ المعاني والألفاظ والصور والتراكيب وغيرها في الشعر يسميه الأقدمون (السرقة الشعرية) وهي أصناف منها المقبول ومنها المرفوض, والمحدثون يسمونه (التناص) وبعضهم يسميه على سبيل الدعابة (التلاص) من اللصوصية, وكأنه يعترض على محو صفة السرقة في هذا المصطلح!
وهذا التوافق في البيتين أيا كانت تسميته لم يهتم بإثارته إلا بعض الإعلاميين المهتمين بالشأن الأدبي, ولم تتجاوز إثارته في ذلك الوقت المعقول إلا عند الغوغاء في بعض المنتديات الإلكترونية.
وأظن أن تناقل الأفكار والمعاني والصور بل والأساليب والألفاظ في الشعر يزيده ثراء ما لم يكن سلخا تاما, والأفكار والمعاني ليست حكرا على أحد, فهي كما يقول الجاحظ «مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي», والمحذور في السرقات الأدبية يكاد يكون منتفيا في هذا الزمان بعد انتشار وسائل الاتصال والتواصل ومحركات البحث المتعددة.
و»الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير» كما يقول الجاحظ في تتمة مقولته السابقة, وهذه الصناعة لا يخدش نقاؤها توظيف أفكار الآخرين وأساليبهم طالما أن هذا التوظيف يقدمها في مشاهد جديدة جميلة أكثر بهاء ورونقا ورواء, والشعر مثله مثل غيره من المجالات (البقاء فيه للأفضل), ولم يختلف السابقون ولا اللاحقون على أن استعارة الأفكار أو الصور, مباحة محمودة, إذا كانت تقدم (النسج والتصوير) في قالب أحلى وأبهى, وفي قصة سرقة سلم الخاسر بيت أستاذه بشار بن برد خير مثال على تقرير هذه الحقيقة.
ليس هذا ما يعنيني في بيت نايف هذا, وليست غايتي هنا إجراء موازنة أدبية بين البيتين, بل الذي يعنييني في هذه السياحة أن هذا الأخذ ليس من الأخذ المحمود, فقد شوّه المعنى وقدم فكرة مغلوطة عندما قرر أن الأفعال ليس بالضرورة أن تعبر عن الأخلاق, وهذا خلاف الحقيقة, ولا أسوأ من تمرير الأفكار غير الصحيحة بحلل زاهية تخدر الفكر وتلهي عن التأمل, وعرض مثل هذه الفكرة بأسلوب (الحكمة والمثل) أقل ما يمكن أن يقال فيه أنه (تدليس منمق), ويبدو أن غرابة الفكرة ألهت الشاعر وجعلته يرتكب هذا الخطأ الفكري الفادح, والإنسان يغفل عن بعض الأعراض السلبية الجانبية لما يقول خضوعا لسلطان النشوة.
أما قول الحميدي (ولا هو ضروري تكون أشعاري أخلاقي), فلا خلاف فيه فيما أقدر, لأن (الأشعار) غير (الأفعال) فهي نوع من الأقوال.
والأفعال تقرر الأخلاق على وجه الضرورة وإن نفى ذلك نايف صقر في هذا البيت, والفعل القبيح يعبر بالضرورة عن سوء الخلق, ولا يمكن أن يوصف صاحب الأفعال القبيحة بأنه ذو خلق حسن, ولا يمكن أن يوصف صاحب الأفعال الجميلة بسوء الخلق, فالأفعال تدل - حتما -على الأخلاق.
أما (الشعر) فليس بالضرورة كما قال الحميدي أن يكون مرآة صادقة لواقع الشاعر الأخلاقي, لأن الشعر عالم افتراضي, مثله مثل التمثيل, فإذا تقمص الممثل دور الشرير فلا يعني أنه في الواقع شرير, والشاعر في شعره ممثل, لأنه يتقمص أدوارًا لا تمثله على الحقيقة, وإن كانت طبيعته البشرية تملي عليه أن يقدم نفسه دائما بصورة مثالية.
لو قال نايف (ولا هو ضروري تكون أقوالي أخلاقي) لم يعترض عليه أحد, فالأقوال غير الأفعال, والله سبحانه يقول عن الشعراء (وأنهم يقولون ما لا يفعلون), لكن يبدو أنه عدل عن هذا فرارا من تكرار فكرة الحميدي وهو كما أظن لا يريد تكرار الفكرة بل يريد الاستفادة من هذا القالب الجميل الذي عرضها, وهو قالب يشبه المعادلة الرياضية, أراد أن يستفيد منه بعرض فكرة أخرى, فأدخل كلمة (أفعالي) مكان (أشعاري) فكانت النتيجة هي الفشل في سبك الحكمة لفشل المعنى والسبب هو عدم تواؤم أطراف المعادلة, وربما كان للشاعر توجيه خاص للمعنى مختلف عما فهمناه.
وأخيرا سأطبق معنى بيت الحميدي الثقفي على نايف صقر, وأبرّئ بيته من تهمة تعمّد (ترويج الأفكار غير الصحيحة) لأني أرى أن نايف يختلف عن بعض شعراء جيله برزانته وتعقله وبعده عن لفت الأنظار بافتعال الإثارة الفجة, كما أن شعره يمتاز بالواقعية وقوة السبك ومراعاة وقار الشعر, وفيه صور بديعة مركبة مكثفة كثيرة مثيرة, ولعل قصيدته (خيام الندم) تقدم صورة قريبة من شخصيته المتزنة.