أ. د.عثمان بن صالح العامر
المجتمع السعودي مثله مثل بقية المجتمعات البشرية، يعاني أمراضاً وتمر به أزمات ويتعرض بعض أفراده لنكبات وانتكاسات وهزات فكرية ومالية واجتماعية ونفسية، وأي من هذه الأمراض قد يبدأ يسيراً ويتعاظم إن هو تُرك ولم يخضع للتشخيص ومن ثم العلاج.
والأسرة كما الأفراد يعتريها أمراض فتاكة وأدواء قاتلة، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا المرض ويمتد أثره إن هو داهم الأبوين، أحدهما أو كليهما، أو الأولاد الإناث والذكور.
ومن بين الأمراض المجتمعية الخطيرة المرض النفسي المتعدد الأعراض، المتنوع الأسباب، ويرتبط به سبباً وعرضاً المرض الاجتماعي غالباً، ومع أن الأسرة هي المعني الأول بالبحث عن العلاج فإن كثيراً من أولياء الأمور ومن جميع الشرائح وكافة الطبقات لا يولون جانبي النفس والاجتماع الرعاية والاهتمام الواجبين، بل يعتقدون أن الذهاب للعيادات المتخصصة، ومراجعة الطبيب النفسي، والخضوع لجلسات العلاج أمر معيب، ولا يليق بعائلتهم ذات السمعة والتاريخ، ولذا فإن الأمل معقود -بعد الله عز وجل- بوزارة التعليم ممثلة في المدرسة والجامعة.
لقد أحسنت وزارة التعليم حين التفتت لهذا الجانب المهم في البناء التكويني لشخصية طالب التعليم العام، فغرد معالي وزيرهِ الدكتور عزام الدخيل (أبو محمد) مطلع هذا الأسبوع عبر حسابه الشخصي في تويتر قائلاً: «لدوره الحيوي في العملية التعليمية اعتمدت الوزارة أولوية تكليف المعلمة بـ #الإرشاد _الطلابي_للمتخصصين في مجال الدراسات النفسية أو الاجتماعية».
ومع أن التعميم أكد وشدد على أهمية إسناد مهمة الإرشاد الطلابي في الميدان التربوي للمتخصص في الدراسات النفسية والاجتماعية فإنني -ومن واقع خبرة ودراية- أكاد أجزم أن مثل هذه التأكيدات والتوجيهات لن تغير من واقع الحال كثيراً؛ نظراً لقلة المتخصصين الذين هم على رأس العمل في الميدان التربوي.
ولما للإرشاد والتوجيه من أهمية كبيرة وأثر عظيم في بناء الشخصية السوية المستقيمة المتزنة، خاصة في ظل الظروف والتحديات التي يعيشها النشء السعودي في عالمنا المعاصر، وللحاجة الماسة لوجود المتخصص والمتخصصة، ولكثرة الخريجين والخريجات الذين كانوا وما زالوا يبحثون عن فرص عمل تتوافق وتكوينهم العلمي وإعدادهم الأكاديمي والمهني المتخصص، وتتفق ورغباتهم الحقيقية في ممارسة مهنتهم التي يشرفون بالانتماء لها ومزاولتها، لهذا كله أرى أن يعاد النظر جذرياً في الإرشاد الطلابي، ويوظف -نعم يوظف- المختص النفسي والمتخصص الاجتماعي خريجو علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية بمسمى مرشد طلابي (نفسي) والآخر (اجتماعي)، وهؤلاء أهل الاختصاص المعدون إعداداً علمياً ومهنياً بشكل صحيح، هم من سيكونون -بعون الله وتوفيقه وبدعم ومؤازرة وتشجيع صناع القرار- البوابة الحقيقية لعلاج الآثار النفسية والاجتماعية التي تنعكس سلباً على الطالب والطالبة جراء التفكك الأسري الناجم عن الطلاق أو تعاطي الأب للمخدرات أو تبنيه لفكر الخوارج والغلاة، أو لأن هذا الصغير صار يتيماً لسبب من الأسباب، أو أنه أصلاً ولد ونشأ في أسرة من طبقة الفقراء، أو أنه من ذوي المسغبة أو... حتى مجهولو الأبوين سيكون لهم في وحدة التوجيه والإرشاد النفسي والاجتماعي العناية والرعاية المتخصصة المبنية على أسس علمية.
لقد اطلعت على تجارب عالمية كثيرة سبقت في هذا الباب المهم، وكان لاهتمام وزارة التعليم الكبير بهذه الوحدة، وتوظيف المختصين الذين يقومون بواجب التشخيص الفعلي، ومن ثم صرف العلاج التربوي والنفسي والاجتماعي والفكري الناجع، أقول كان لهذا الاهتمام أثره في بناء المواطن الصالح واستقامة الكثير، وخروجهم من مأزق فقدان الهوية وضياع الخطوات وتعثر مسارهم الدراسي، وأقرب التجارب لنا ما هو حادث في مدارس دولة الكويت فضلاً عن غيرها، ومن أفضل ما رأيت على الإطلاق التجربة الفنلندية.
إن التشخيص الخاطئ الذي يقوم به غير المختص ووصف العلاج بطريقة عشوائية مرتجلة، لن يحقق الشفاء لهذا الطالب أو الطالبة، بل ربما زاد المرض وتعاظم المصاب سواء أكان الداء فكرياً أو سلوكياً لا سمح الله، ولذلك أعود وأؤكد ما ذكرت من وجوب الالتفات الحقيقي لهذا الأمر، وتأسيس وحدات متخصصة يشرف عليها ويشغلها خريجو أقسام علم النفس والاجتماع والخدمة الاجتماعية المعدون بشكل حقيقي ودقيق، وهؤلاء قلة في الميدان التربوي في واقعه الحالي، ولذا لا بد في نظري أن تستحدث وزارة الخدمة المدنية -وبمباركة ودعم من قبل وزارة المالية- وظائف إشرافية يشغلها متخصصون ومتخصصات في هذه الفنون الثلاثة (النفس والاجتماع والخدمة الاجتماعية) وتسند لهؤلاء -خريجي هذه التخصصات- الرعاية والتوجيه والإرشاد الفعلي لا الشكلي، الذي به -بعد عون الله وتوفيقه- الحماية من الانحرافات الفكرية والتخبطات السلوكية التي عانينا منها وما زلنا، فالإرهاب والغلو والتطرف والتأخر الدراسي والهروب من المدرسة والتعاطي والشذوذ و... هي نتاج غياب الرعاية النفسية والاجتماعية الناضجة والواعية لهذا المراهق وهذه المراهقة منذ الصغر، والدراسات المتخصصة والأبحاث المعمَّقة تشير إلى شيء من هذا، ليس هذا فحسب، بل من الضروري وجود عيادات نفسية واجتماعية في كل منطقة تعليمية يحول لها الطالب متى لزم الأمر، ويستقطب للعمل فيها أطباء نفسيون واجتماعيون مهرة، حفظ الله بلادنا ووقانا جميعاً شر الأمراض، وإلى لقاء والسلام.