أ. د.عثمان بن صالح العامر
أحد.. نشبت هذه المعركة الهائلة بين المسلمين والمشركين يوم السبت الخامس عشر من شهر شوال سنة ثلاث من الهجرة، وهي ثاني معركة دامية طاحنة يخوضها المسلمون ضد جحافل الكفر في مكة بعد غزوة بدر الكبرى، التي كانت بمثابة الفتيل الذي أضرم النار في نفوس المكيين فجاءوا مصممين على الانتقام.
لن أتعرض في هذا المقال لمجريات الأحداث، ولن أسرد الدروس والعبر المستقاة، ولكنني وقفت -لحظة التفكير فيما أكتب اليوم- متأملاً في الآثار المترتبة على مخالفة فريق الرماة أمر محمد صلى الله عليه وسلم (القائد العام للجيش) الذي أمّر على هؤلاء الخمسين مقاتلاً هو عبد الله بن جبير رضي الله عنه، وقال لهم فيما قال: «.... إن كانت الدائرة لنا أو علينا فالزموا أماكنكم لا نؤتين من قبلكم» وفي رواية: «احموا ظهورنا. إن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا، وإن رأيتمونا نغنم فلا تشاركونا...».
وخلصت من جلسة التأمل هذه إلى:
* في المعارك وحين الحروب تظهر أهمية توحيد مصدر اتخاذ القرار العسكري، والسمع والطاعة المطلقة لما يأتي من توجيهات وتعليمات وبيانات عليا، وعدم الاجتهاد الشخصي المبني على معطيات قد تكون صحيحة ومنطقية، كما هو الحال مع فريق الرماة الذين لم يتركوا أماكنهم حتى رأوا لواء المشركين مطروحاً على الأرض، وأيقنوا بهزيمتهم وتحقيق المسلمين النصر عليهم، فهذه الاجتهادات المبنية على رؤية ذاتية قد لا تتوافق في النهاية مع الإستراتيجية العسكرية التي خططتها ورسمت ملامحها القيادة العليا للجيش.
* أمر آخر لا يقل أهمية عما سبق، ألا وهو الحديث عن «خاسر ورابح» قبل أن تضع الحرب أوزارها؛ فالمعارك لا يمكن الجزم بما تنتهي إليه حتى اللحظة الأخيرة لها، وهذا ما حدث في هذه المعركة التي كان هذا الصنيع من الرماة سببًا في كارثة مروعة، كادت أن تؤدي لمقتل النبي صلى الله عليه وسلم الذي تعرض لجراحات عدة لم يمر به مثلها طوال حياته.
* إن صمام الأمان لنا في حربنا مع أعداء الوطن (عقيدة وقيادة وشعباً وأرضاً)، بعد توفيق الله وتأييده ونصره، هو الالتفاف حول قيادتنا، والسمع والطاعة لها، وعدم التصرف من أيٍّ منا -مهما تضاءل دوره في البناء المجتمعي، وصغر فعله في الموازنة العسكرية- بناء على ما يحسنه العقل ويسوغه المنطق، فالحروب والجيوش لا تعترف بهذه اللغة، وليس لها منطق واحد يمكن ضبط الأمور على نسقه، إذ إن الأساس فيها المكر والمخادعة وتوظيف كل الإمكانيات والقدرات للظفر بالمعركة وتحقيق النصر.
ولا يظنّ ظانّ أنني أعني بهذا القول جنودنا البواسل المرابطين على الحدود، أو رجال الأمن حماة الوطن في الداخل دون غيرهم، بل هي رسالة لنا جميعا، إذ إن حرب اليوم ليست ذات بعد عسكري ميداني فحسب، بل هي فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وأسلحتها ناعمة وثقيلة، وميدانها الأرض والفضاء، وكما هي في عالم الواقع الحقيقي هي في العالم الافتراضي الخطير الذي سمم الأفكار وأضر بالأوطان، وما يدريك فالتغريدات والهاشتاقات والتهميشات والكتابات قد تفسد الخطط، وتسلب النصر، وتضر بالإستراتيجية المرسومة لخوض معاركنا ضد أعداء الوطن على كل الجبهات.
* كما أن من المبكر جداً -في نظري- الحديث عن نصر أو هزيمة، فالباطل ينتفش، والأعداء يتحزبون، والجولة القادمة التي نسأل الله أن يكفينا شرها توجب علينا توحيد الصف، وجمع الكلمة، واستحثاث الهمم، وشكر النعم، والمحافظة على المكتسبات، وتصفية النفوس، ومؤازرة المرابطين والوقوف مع أسرهم، واسترداد عدن في حرب اليمن، والقبض على الدواعش المفسدين والمخططين لضرب الوطن من خلال مشروعهم الإفسادي الخطير الذي كان يراد منه زعزعة الأمن من الداخل ليس النهاية، ولكنه خطوة متقدمة في المسار الصحيح، الواجب إزاءها شكر الله عز وجل عليها، ثم شكر قيادتنا الحازمة اليقظة، والمحافظة على ما تحقق، والاستمرار في هذا النهج، والتعاون والتكاتف، وأخذ الحيطة والحذر، وعدم التخلي عن الأدوار المنوطة بنا، فكل منا على ثغرة، فالله الله أن يؤتى الوطن من قبلنا، حمى الله عقيدتنا، وحفظ بلادنا وبلاد المسلمين، وأبقى قادتنا، وأدام عزنا، وحرس أرضنا، ووحد كلمة شعبنا، ودمت عزيزاً يا وطني وإلى لقاء والسلام.